قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

دور الأزهر الشريف في استقلال إندونيسيا


لم تكن هناك أية دولة من دول العالم تُعير إعلان استقلال إندونيسيا سنة 1945م التفاتًا، فضلا عن أن تعترف به، حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وحين اعترفت اليابان بهزيمتها الماحقة واستسلامها المهين أمام دول الحلفاء بعد تدمير هيروشيما ونجازاكي كل التدمير.
لقد أُرسلتْ من قِبَلِ جمهورية إندونيسيا بعثاتٌ إلى دول العالم، طمعا في الحصول على اعترافهن بوجودها، فور إعلان استقلالها. هنالك مرت سنون ولم تظفر تلك الجمهورية الجديدة الناشئة بأي اعتراف من أي دول.. أجل، إن تلك الفترة كانت شديدة على إندونيسيا وشعبها، فهل هناك حاجة مثل حاجة الدولة الجديدة إلى اعتراف دول العالم بها؟!
ما كان الطلبة الإندونيسيون الدارسون بالأزهر الشريف حينذاك يفوتهم ذلك الخبرُ عن استقلال بلدهم، وما كانوا يغفلون عن أن دولتهم في حاجة ملحّة إلى اعتراف دول العالم بها، ولذلك لم يجدوا بدا من أن يأخذوا كل أسباب تبلغهم إلى الحصول على اعتراف بلد الأزهر -حكومة وشعبا- بدولة إندونيسيا. 
أجل، أنشأوا «جمعية استقلال إندونيسيا» سنة 1945، ونشروا المقالات والبحوث عن إندونيسيا واستقلالها في الصحف والمجلات، واستدعوا أدباء مصر وكتّابها الفضلاء لكتابة المقالات والبحوث عن حاجة إندونيسيا إلى اعتراف مصر بها.
وما صيحات عن إندونيسيا، واستقلالها، وكفاحها المتواصل، وحاجتها إلى اعتراف الدول العربية بها على مجلة «الرسالة» لصاحبها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات؛ إلا خير دليل على تلك الجهود الجبارة والمحاولات الدؤوب لهؤلاء الطلبة الإندونيسيين المناضلين الذين علّمهم الأزهرُ الشريف أحسن تعليم وربّاهم خير تربية.. وفعلا! لقد أصبحت مصر سنة 1947م أولى دول العالم اعترفت بجمهورية إندونيسيا.
ذلكم ما كان من فضل الأزهر الشريف على استقلال إندونيسيا.
ومما لا سبيل إلى إنكاره أن صيحات الاستقلال لم تكن جاءت عن فراغ.. أجل، لقد كان هناك -قبل إعلان الاستقلال بأربعين سنة- رجل عظيم اسمه العلامة «أحمد دحلان»، قام بإصلاح التعليم وإعداد الرجال الذين هم فيما بعد في طليعة المناضلين عن الشعب وعن الاستقلال؛ من خلال «الجمعية المحمدية» التي أسسها، وهي اليومَ كبرى مؤسسة تعليمية واجتماعية في إندونيسيا بلا مراء.
ومعروف أن أحمد دحلان هذا كان عظيم التأثر بالأستاذ الإمام محمد عبده فيما يتعلق برؤيته الإصلاحية في مجالي التعليم والاجتماع، ومعروف أنه نجح في تطبيقها وتطويرها كل النجاح. وما رأيناه اليوم من تقدم الجمعية المحمدية الهائل الباهر في مجالي التعليم والاجتماع لخير دليل على ما نقول.
فالإندونيسيون إذن عِيالٌ في تقدم التعليم على الأزهر الشريف من خلال أبنائه النجباء.


مدينة البعوث الإسلامية، 23 فبراير 2016م
أحمد سترياوان هريادي 

هموم الأزهري - القصة القصيرة


ما هذا الشعور الغريب الذي غمر أحشائي؟ وما هذا المزيج العجيب من فرح وترح، فألفيتُني مثل محزون ما استطاع إلا الابتسام، ومسرور ما استطاع إلا البكاء؟ هلا كان هذا الشعور فرحا خالصا! حيث العودة إلى إندونيسيا الوطن الحبيب، وحيث لقاء الأهل والأحبة، بعد فراقهم لمدة تزيد على ثماني سنوات، في مهمة البعثة العلمية إلى جامعة الأزهر.
أجل، لقد حصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراه كما هو مطلوب مني. غير أن هناك شيئا ليس في مقدوري أن أضرب عنه صفحا، وأنى لي ذلك؟ فقد شغل بالي دوما وأخذ كل اهتمامي. هذا الشيء هو كوني أزهريا.
قبل أيام ذهبت إلى أحد أساتذتي رغبة في إخباره عن هذا السفر، وطمعا في أن يدعو لي وأن يوصيني. فأخذ يقبل جبهتي في لطف ليس بعده لطف ويقول ممسكا بيدي:
-«أي بني، الأزهرية حجة على الأزهريين كيفما كانوا وأينما حلوا..»
لم أجد بدا فور سماع هذه الوصية البليغة من أن يأخذني اضطراب أي اضطراب، وذهول جد ذهول إلى ساعتي تلك. على أني حاولت إراحة نفسي من هذا الاضطراب وذاك الذهول باستحضار ذكريات حلوة، فإذا يتمثل أمامي كيف كنت في أيام الصبا الغابرة سعيدا مطمئنا بجوار أهلي وأحبتي، وكيف كنت أنا وصديقي الحميم ‹مجدِّد› نفرح ونمرح في وقت الفرح والمرح، ونجد ونكد في ساعة الجد والكد.
ترى، أذكرتُ اسم ‹مجدد›؟ أحقًّا ذكرتُ ذاك الاسم الذي طالما أشتاق إلى رؤية مسماه، وإلى تبادل أحاديث الدهور معه؟ ما خطبك يا حبيب القلب وصديق العمر؟ كم كنت أحاول الوقوف على أخبارك منذ قضتِ السماء أن تفرقنا حينا من الدهر، حيث ابتعثتنا الجامعةُ الإسلامية الحكومية بجاكرتا للدراسة إلى بلاد نائية؛ أما أنا فإلى القاهرة، وأما أنت فإلى إنجلترا.
كم كان يوجعني أن ذهبت محاولاتي كلها سدى، فليس لي بد من أن أتجمل بذكرك وذكر مناقبك. أما علمت -صديقي- أن في ذكرك مُزْنَةً لأرضي تلك المجدبة، وفي مناقبك لِثَامًا لي من هجير فلاة الحياة. ولم لا يا صديقي، أنت الخلق الرفيع، وأنت الإنسانية السامية، فلم أر من هو أرق منك قلبا، ولا ألين طبعا.
كم كان يروقني عطفك على كل من وقع عليه الظلمُ مهما يكن عرقه ودينه وجنسيته. إني لأذكر جارنا الهندوسي إذ اعتدى عليه أناس مجهولون، فكنتَ أول من مد إليه يد العون.. ذهبت به إلى المستشفى على نفقتك الخاصة. وليس يغيب عن ذاكرتي يوم كنت وحدك أنسي وعزائي حينما اختار الباري سبحانه والديَّ إلى جواره. قلت لي ذات يوم:
-«إني ما إن رأيت نازلة نزلت بأحد حتى وجدتُني أشعر كأنها نزلت بي».
أجل، إن في ذكرك -صديقي- بعض التخفيف من ثقل هذه الأزهرية على عاتقي، وإني على تفاؤل ليس بعده تفاؤل أن سوف أجد فيك خير نصير وخير مشجع لي على تحمل هذه المسئولية الأزهرية العظيمة، لأني على علم أن التحاقي بالأزهر ليس كمثل التحاقي بمؤسسة من المؤسسات أو بجامعة من الجامعات، وأنه تطلّب من أبنائه عزما وحزما، كما تطلب منهم جدا وكدا، أما ذكرت أباك إذ قال لنا يوما:
-«كلما عظم قدر إنسان عظمت لا محالة مسئوليته».
هكذا تدافقت عليّ هذه الخواطر وتمثلت أمامي تلك الذكريات، كأنما أُنسي وراحتي من بنات الدهر انحصرا في هذه الخواطر وتلك الذكريات، وكأنما ليس للحال والمستقبل نصيب إلا المخاطر المؤكدة والمخاوف المركبة. فلما طال إغراقي في بحر السكون إذا نداء التأهب للسفر في المطار يطرق مسمعي لينقذني من هذا الإغراق.
***
لم تطل بي المدة منذ وطأتْ قدمايَ أرضَ البلد، إلا وقد بدأت عهدا في حياتي جديدا.. أُسندَ إليّ تدريسُ الأدب والنقد في الجامعة، كما أسند إلي الإشرافُ على مسجد الجامعة، هذا فضلا عن أشغال كثيرة خارج الجامعة سواء أكانت دينية أم علمية أم اجتماعية؛ أشغال استوجبت بداهة مني كأزهري الموسوعيةَ في العلم والثقافة، ودقيق الفهم لمستجدات العصر وحسن متابعتها؛ أشغال جعلت تخصص الأزهري مجرد حبر على ورق حتما، لأنه تلاشى أمام الحقيقة الأزهرية التي أوجبت الأزهري الإلمام بكل أنواع العلم وبكل فنون الحياة.
في الجامعة وجدت صديقي ‹مجدِّدًا› قد سبقني إلى التدريس بثلاث سنوات، إذ كانت مدة دراسته في إنجلترا أقصر مني، وكان وجوده بجانبي خير عون لي على التكيف مع بيئة الجامعة، وعلى القيام بمهمتي العلمية، وعلى التعرف إلى كبار شخصيات الجامعة.. وما إن مرت أشهر قلائل مذ مقدمي حتى شعرت كأني قضيت فيها أعواما طوالا.
على أني فوجئت يوما -أثناء تدريسي للأدب العربي في العصر الأموي- بجرأة طلابي.. كان الحديث ساعتئذ عن نشأة الأحزاب السياسية، فلما شرعت في مناقشتهم مستبديا آراءهم في كل حزب، جعل واحد منهم يقول لي:
-«ما وجدنا أنفسنا بعد حديثك عن موقف الإسلام من الشعر، ودور شعراء الرسول ﷺ في الدعوة الإسلامية، وتحليلك الرائق لبعض أشعارهم، إلا منبهرين.. كأنما ليس هناك درس أقبل للطبع ولا أمتع للروح من درسك هذا.. ثم ما لي أراك اليوم تعكر صفاءه بحديثك عما تشمئزّ منه النفوس الطيّبة وتكفهرّ منه الوجوه النيّرة..»
وجعل الثاني يقول وقد احمرّ وجهه:
-«وعندي ليس هناك رأي فيما تسميه حزب الأمويين إلا أنهم ظالمون حتى لم يتركوا من الظلم شيئا.. اغتصبوا الخلافة من أهل بيت النبي ﷺ، وليس هناك من أحق بها منهم، لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، فضلا عن طليق ابن طليق»
لم يكد هذا الثاني يفرغ من كلامه حتى وجدت الوجوم بدأ يتسرب إلى كياني، فلما هممت أن أتحدث إذا بالثالث قد سبقني إلى الكلام، قال منفعلا:
-«أما أنا فلن أرضى لنفسي أن أنجس سمعي وبصري بقوم خرجوا على خليفة رسول الله ﷺ، وقتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ، ورموا وحرقوا بيت الله، وساءوا في سياسة الحكم وفي سياسة المال على غير هدي الله.. واسمح لنا مع فائق الاحترام أن نفارق درسك!»
بعد الإصغاء إلى أحاديث هؤلاء الثلاثة، أشرت باسما إلى طلابي الكفَّ عن مواصلة إبداء آرائهم، حين همّوا أن يشاركوا الثلاثة في الحديث، ثم أومأت إلى الثلاثة بمفارقة القاعة الدراسية..
ألمّ السكون لحظة من الزمان بالقاعة..
ثم ما لبثت أن قررت إنهاء المحاضرة اتقاء لحدوث الاضطراب إذا أزمعت على الاستمرار. على أني استبقيت اثنين منهم بعد أن أمرتهم بمفارقة القاعة. قلت لهما في صوت خافت وقد ملكني الإصرار على الاستطلاع:
-«بالله عليكما، أخبراني ماذا تعرفان عن أصدقائكما الثلاثة!»
فأجاب واحد منهما:
-«ما أعرف إلا أنهم مواظبون على حضور المحاضرة، وحريصون على إرضاء أساتذتهم، فما وجدتهم يوما يتوانون عما طلب منهم أساتذتُهم من إعداد البحوث، وإعداد المعلومات، وإبداء الآراء، والمناقشات أثناء المحاضرة.. لذا أصبحوا أحباء إلى قلوب الأساتذة..»
وأما الآخر فقال:
-«الملاحظ عندي أنهم معجبون بالدكتور ‹مجدد› كل الإعجاب.. نعم، ما أرى أحدا لا يعجب بالدكتور ‹مجدد›، لما فيه من عمق علمه وسعة ثقافته وتواضعه الجم، لكنهم فاقونا في الإعجاب به والإكبار له، وليس غريبا أن صاروا أكثر الناس ملازمة له..»
-«حسنا.. شكر الله لكما!» 
ما كانت إجابتهما تروي غلتي..
خرجت من القاعة ثقيل الخطى كاسف البال، كأني غير مصدِّق ما حدث آنفا، وما لبثتْ تساؤلاتٌ شتى أن تزاحمتْ عليّ: أمتشيعون هؤلاء الثلاثة؟ أَوَ تسمح هذه الجامعة -وهي كبرى الجامعات الإسلامية في إندونيسيا أكبر بلاد أهل السنة في العالم- أن يتشيع أبناؤها وأن ينتشر التشيع في أحضانها؟ أليست عقول هؤلاء الشباب السريعة التجاوب، ونفوسهم السهلة التأثر؛ مرتعا خصبا لكل أنواع المعتقدات والأفكار؛ صحيحة كانت أم سقيمة، مستقيمة كانت أم منحرفة؟ أليس عليّ -كأزهري- ألا أبقى صامتا متحجرا تجاه هذا الواقع المرير؟
دفعتني تلك التساؤلات إلى أن لا بد من اعتزال الناس حينا، لأفكر في هذا الخطر الجسيم، وأبحث عن حل ناجع.. وبعد هنيهة رأيت أن ليس هناك معتزَل أليق بي من مكتب مشرف مسجد الجامعة.
هنالك استنبطت أن الذي قام بغرس البذرة الشيعية في هذه الجامعة لا بد أن يكون من أبنائها على أقل تقدير، ولا بد أن يكون له ما تنجذب به قلوبُ الناس نحوه.. على أن خاطرة ما لبثت أن انخطرت: أليس من الممكن أن يكون هذا الشخص هو ‹مجددا› صديقي الحميم؟
إلا أني لم أبطأ في إنكار هذه الخاطرة، وأنى له ذلك فهو ابن جامعة «أكسفورد» تلك العريقة، ويستحيل أنه أخذ التشيع منها، أو يكاد يستحيل، إذ من الصعب جدا أن تكون تلك الجامعة -التي فيها الديمقرطية تقدَّس، والحرية تمجَّد، والعقل فوق كل شيء- معقلا للتشيع الذي كانت فكرته في الإمام والإمامة مَحْقًا للديمقرطية، وموتا للحرية، وفناء للعقل.
أجل، كيف ارتضت أكسفورد لنفسها أن تحتضن فكرة أن الأرض كلها للإمام، والناس عبيد له في الطاعة، وأن الخير والعدل هما ما فعله الإمام وما أمره، والشر والجور هما ما تركه وما نهى عنه، وأن الإمام معصوم من الذنوب، وغير مسئول عما يفعل، وأن كل أنواع العبادات وكل أعمال الخير مهما ملأت الدنيا لا تنفع صاحبها من شيء إلا يوم آمن بإمامة الإمام، وأن ليس لأحد أن يعترض على الإمام ولا لثائر أن يثور في وجهه ويدعي الظلم.. كيف يمكن للديمقراطية والحرية والعقل أن تعيش ثم تنمو ثم تؤتي أكلها في مجتمع ينظر إلى الإمام مثل هذه النظرة البالغة العجب؟ هيهات!
إذن من البعيد جدا أن يكون أخي ‹مجدد› هو القائمَ بغرس البذرة الشيعية في هذه الجامعة، وإذا كان الأمر كذلك فمن هذا الشخص إذن؟ لما أعرفْ، ولكني متفائل بأني سأعرفه لا محالة، قريبا أو بعيدا..
***
كم من أيام خلتْ ولم أرَ بوارد الاهتداء إلى هذا الشخص، وكم من محاولات حاولتُها لذلك ولم أظفر بشيء يطيب لي أن أحكم به على شخص ما، أنه ذاك الذي أبحث عنه.. ماذا سأفعل إذن؟ لقد وقعتُ في حيصَ بيصَ.. أأترك هذا الأمر للدهر ليفعل به ما يشاء إن استحسنه أبقاه وإلا أتلفَه؟ أم أواصل الجهد في البحث عن هذا الشخص الرئيسي الغارسِ البذرةَ الشيعيةَ، لأحاوره فأُرجِعه بالحكمة مما أفرط فيه من المبالغة في تمجيد عليّ ◙ وأبنائه، وأردّه مما فرّط فيه من عدم إنصاف بعض أصحاب النبي ﷺ، بل والنيل منهم، اعتقادا مني أني إذا أردتُ القضاء على ثعبان فلا بد من القضاء على رأسه أولا؟
على أني ما رأيت بعد تلك الأيام إلا أن الصبر في نفسي بدأ ينفد، وأن دواعي اليأس أخذت تراودني عن نفسي مراودة.. أجل، إن الصبر لا بد له من أجل، واليأسَ ما عنه محيص، لأني إذا أزمعت على الصبر، وبوادر الاهتداء أبتْ عليّ أن تلوح، فهل ينفع بعد هذا صبرُ صابر؟! وهل بعد انعدام الصبر إلا اليأس؟! حينئذ رأيت أن أعود إلى ما أنا عليه من قبل، وهو التفرغ للعلم، ليس إلا.. وفعلا! ما ألفيتُني بعد ذلك إلا منشغلا إما بالدرس أو بالتأليف أو بإلقاء المحاضرات أو بممارسة بعض الأنشطة العلمية والدعوية والاجتماعية.
ولما لم يعد ذلك الأمر يهمني، وقد تفرغتُ لما تفرغتُ له، إذا في ليلة من الليالي شيءٌ ما كان يخطر ببالي -وما أظن أنه سيخطر ببالي- يفجَأني، ذلك حينما جئت مكتب مشرف مسجد الجامعة ليلا، لآخذ شيئا تركته في النهار نسيا، ولا بد لي من أخذه في ليلتي تلك لضرورة من الضرورات.. أجل، رأيت اجتماعا جرى في المسجد، ثم اقتربت في شيء من التلصص إلى حيث الاجتماع، لأصغي إلى ما دار فيه من أحاديث، فإذا أحاديث الاجتماع تذكرني ما كنت قد نيست، وتوقظ في نفسي ما كان قد نام، وتسوقني إلى أن أستحضر أسئلة ما وجدت لها إجابات تروي غلتي.
أجل، إن كل الأشياء التي كانت حيّرتْني وأوردتْني تساؤلات شتى هي نصب عيني، مشاهَدة مفصَّلة، ما وجد الشك والتردد إليها سبيلا.. لست أدري وقتئذ ما أنا فاعل تجاه ما رأيت، إذ كل ما توهمته مستحيلا قد غدا واقعا لا ريب فيه، وكل ما أنكرتُه وألححتُ على إنكاره خوفا من تحققه ومن صدقه، قد لاح وتمثل بين يدي تحققُه وصدقُه..
آه من هذه الحياة..! هلا كان الذي أنفقت له وقتا وجهدا في البحث عنه، والذي فعل ما فعل من غرس البذرة الشيعية في هذه الجامعة إنسانا آخر غير هذا الإنسان الذي هو عليّ عزيزٌ حريصٌ، والذي هو بي رءوفٌ رحيمٌ! هأنذا قد امتُحنتُ في أعز الناس علي وفي آثرهم عندي.
أخذت من مكتبي ما أخذت من دون أن يشعر الاجتماع بمجيئي، ثم عدت إلى بيتي واجما مكتئبا..
***
في صباح اليوم شعرت أن نفسي غير نفسي بالأمس وبما سبقه من الأيام، أصبحت في ذلك اليوم سجين حزني وهمومي.. غادرت منزلي متجها نحو الجامعة ضعيفَ الهمة ذابلَ الأمل، لم يكن هناك شيء اعتلج في رأسي سوى كيف أرد أحب الناس إلي وآثرهم عندي إلى صوابه وإلى إنصافه.. أجل، اعتزمت على أن أحاوره في صباحي ذلك، لأتبين سبب تشيعه، ومتى تشيع، وممن أخذ التشيع، ولِـمَ أزمعَ على نشره في هذه الجامعة السنية.
وما إن بلغت الجامعة حتى هرعت إلى مكتبه، هنالك ألفيته منشغلا بإعداد محاضرته التي سيلقيها بعد قليل، ولم يكد يفرغ من ترحيب زيارتي المفاجئة بألطف ما يكون وأحسنه حتى أخبرته عما جئته من أجله.. ألححت عليه في رفق ما بعده رفق أن أطلعني على شيء لم يطلعني عليه من أمره. هنالك تردد ‹مجدد› بعض الشيء فيما ألححت عليه، وحاول أن يحول مجرى الحديث، وما ذلك بشيء فاته وعيي.. فألححت عليه ما ألححت مرة أخرى وبالغت في الإلحاح حتى استسلم أخيرا فأطلعني على كل ما أردته.
بعد الإصغاء إلى أحاديثه تلك الطويلة وجدته أنه تشيع خلال دراسته في إنجلترا، إذ كان كثير الاختلاف إلى أحد المساجد في لندن حيث التقى هناك ‹جلالًا› صديقه العراقي الذي ملأ عينه وقلبه، وحيث كثر لقاؤه إلى حد ما عاد اللقاء منحصرا في المسجد، وفي وقت اختلافه إليه، وإنما أوشك أن يكون في كل وقت وفي أي مكان متاح. كانت أحاديث لقائهما في البداية لم تخرج عن النبي ﷺ ومنزلة علي ◙ عنده.
هنالك بدأ ‹مجدد› ينبهر بأحاديث صديقه تلك الممتعة الرائقه أولا، ويندهش بكثرة اطلاعه على التاريخ وسعة ثقافته ثانيا. وما كان لمجدد -بعد طول مصاحبته له واعتقاده أن صديقه قد أخلص له حبه ووفاءه فليس من الممكن أن صاحبه أراد به شرا- إلا أن يقتنع شيئا فشيئا بصحة ما رآه صاحبه من حقائق التاريخ خصوصا فيما يتعلق بعلي وأبنائه، وفيما يتعلق بميزته ومنزلته وأفضليته، وفيما يتعلق بحقه المغصوب في خلافة النبي وبحق أبنائه من بعده.
لم يجد ‹مجدد› بدا فور اقتناعه هذا من أن يخطّئ ما كان يراه حقيقة من حقائق التاريخ من قبل؛ وأن يغير نظرته جملة وتفصيلا إلى علي وأبنائه أولا، ثم موقفه من كبار أصحاب النبي وأزواجه ثانيا.. وما ذلك عليه بعزيز! إذ كان ‹مجدد› هذا صاحب قلب رقيق وطبع لين، وكان سريع التأثر وشديد العطف على كل من وقع عليه ظلمٌ أو ألمَّ به خطبٌ..
وإذا كان الأمر كذلك، فماذا سيكون أمره إذن تجاه ظلم وقع على ابن عم النبي وزوج ابنته، وعلى أبنائه؟ وماذا سيكون أمره إذن تجاه كل الخطوب والنوازل التي نزلت به وبأبنائه؟ وماذا سيكون أمره إذن تجاه استبشاع صديقه الشيعي لذاك الظلم واستكثاره لتلك الخطوب والنوازل، وترديد كل من الظلم والخطوب والنوازل على سمعه في كل وقت وحين؟
وما دام في نفس ‹مجدد› استعداد فطري للتشيع، ما كان تشيعه إذن بعزيز عليه، لكن ما باله يطمح إلى نشره في المجتمع السني بعد عودته من لندن؟ وجهت إلى ‹مجدد› هذا السؤال، فأجاب وقد لاحتْ لي بوادرُ الارتجاف في وجهه:
-«كل ما أريده من هذا المجتمع السني أن يعترف أفرادُه بأفضلية عليٍّ أولا، وأن يعتقدوا أن الإمامة ركن الدين وقاعدة الإسلام ثانيا، وأن يؤمنوا بأن عليا وَصِيُّ النبي وأن أبناءه أوصياؤه من بعده ثالثا، وأن يتبرأوا ممن غصب حقه في خلافة النبي، ويلعنوا من لعنه عليٌّ وأبناؤه رابعا..»
-«ولِمَ يا أخي تريد من المجتمع السني كلَّ ذلك؟ وما الذي ألزمهم وأوجب عليهم أن يعترفوا ثم يعتقدوا ثم يؤمنوا ثم يتبرأوا ثم يلعنوا؟ أمغرقون نحن في بحر الضلالة لأننا سنّيّون حتى أصبحنا في حاجة ماسة إلى شيعي لينقذنا منه؟ أمصيرنا النارُ لأننا مِتْنَا ولم نتشيع؟ أما عادتْ تنفعنا شهادتُنا بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصلاتُنا وزكاتُنا وصيامُنا، لأننا لم نعتبر الإمامة ركنا من أركان الدين، وجزءا من أجزاء الإيمان، ولم نؤمن بعصمة علي وأبنائه؟ أظالمون نحن لأننا أنصفنا وأقررنا بفضل أصحاب النبي -وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان ╚-، وبمنزلتهم من النبي ﷺ وبعظمة بلائهم للإسلام والمسلمين؛ كما أنصفنا وأقررنا بفضل علي ◙، وبمنزلته من النبي ﷺ، وبعظمة بلائه للإسلام والمسلمين؟ أتظن يا أخي أننا لا نحب عليا وأبناءه؟ كلا! إننا لنحب عليا وأبناءه حبا ربما أكثر منك.. نحبهم لأن نبينا كان يحبهم أعظم الحب، ولأننا نتقرب إلى ربنا بحُب من أَحبَّه نبيُّنا، لكن ما كان حُبُّنا ذاك الجمّ لهم يعمينا عن الحقيقة فيسوقنا إلى الغلو والإسراف في تمجيدهم، وما كان علو منزلتهم من النبي يسدنا عن الإنصاف فيدفعنا إلى تقديسهم وتأليههم..»
هنالك أمسكت عن حديثي، ورأيت ‹مجدد› بعد ذلك قد انعقد لسانه عن الكلام، فألمَّ السكون حينا من الزمان.. فلما طال بنا السكون، رأيت أن حان وقت الانصراف، فما لبثتُ أن استأذنتُه لذلك.
***
لم يكد يمضي أسبوع منذ ذلك اليوم حتى لقيني هؤلاء الطلاب الثلاثة الذين كانوا فارقوا درسي أثناء تدريسي لهم الأدب العربي في العصر الأموي، وما لبثوا أن طلبوا مني وقتا للحديث معهم، فقلت لهم باسما:
-«ما جاء بكم أيها الإخوة؟»
فأجاب واحد منهم:
-«جئناك طمعا في أن تسامحنا، ورغبة في أن نطلعك على ما بدا لنا من حقائق حول أصحاب النبي والفتنة الكبرى التي بسببها انقسم المسلمون إلى يومنا هذا شيعا وأحزابا..»
-«أنا مسامحكم.. ما تلك الحقائق؟ أخبروني! بالله عليكم»
فجعل الثاني يقول:
-«أجل يا دكتور، بدا لنا أننا لا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد أخطأ، لمكانتهم من النبي أولا، ولما بشرهم به من الجنة ورضا الله ثانيا، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله ثالثا.. وما نحب أن نذهب في أمرهم ذلك مذهبَ الذين عاصروهم من أنصارهم وخصومهم، فنحكم على بعضهم بالخير وعلى بعضهم الآخر بالشر. فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألمَّ بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك وهؤلاء..»
هنالك لم يكد الثاني يفرغ من الكلام حتى تابعه الثالث فقال لي في صوت مرتفع:   
-«أما نحن يا دكتور، فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاما، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها، دون أن نقضي في أمر دينهم شيئا لأن الدين لله وحده، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون، وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار. ذلك شيء لا نخوض فيه، وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده..»
-«سبحان الله! ما أجمل حديثكم هذا! وما أروعه! الله يبارك فيكم يا أحبتي ويمدكم بموفَّق الخطى..»
قلت لهم تلك الكلمات مغتبطا كل الاغتباط.. ولست أدري أهناك اغتباط يجاري اغتباطي في ذلك اليوم. أجل، لم يكن ثمة شيء يملأ خاطري سوى فكرة الذهاب إلى مكتب صديقي الحميم ‹مجدد›، في أسرع وقت ممكن، لأعبر له عن بالغ اغتباطي به وإكباري له..

مدينة البعوث الإسلامية، ٢٠ فبراير ٢٠١٦ م
أحمد سترياوان هريادي