قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

كيف يسمو مجتمعنا بالإنسانية؟

بقلم: أحمد سترياوان هريادي
(هذه المقالة تم نشرها في مجلة "الوعي الإسلامي" الكويتية، العدد 587، مايو 2014م) 
كم كانت قلوبنا تعشق نوعا فريدا من المجتمع البشري الذي يخلو عن كوادر الأهواء الطائشة،  فيجد الاطمئنانُ مكانَه في القلوب، والأمنُ مستقرَّه في البيوتات! وكم كانت تنشد نَمَطًا وحيدا من المجتمع الذي يسوده شيء يتفق والفطرةَ السليمة من خضوع للخالق وانقياد لتعاليمه، ويلاءم الطبيعة البشرية من الأخوة والتكامل والتكافل! وكم كانت ترجو طابعا خاصا من المجتمع الذي يلم بأفراده الصدقُ والحياء والعفاف!
إنما سردنا لك ذلك لشدة ما يعانيه مجتمعنا من الانحطاط الكلي بالإنسانية، عندما نلفت أنظارنا إلى الأوضاع الفردية والاجتماعية، فالإنسان اليوم لا يعرف نفسه أنه إنسان يتسم بالإنسانية المكرمة.
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾([1]).
ولا يعي أنه يحمل في عنقه مسئولية عجز عن حملها الخلائق أجمعين كما حكاه سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾([2]).
ولا يفقه أن الكون له تابع مسخر في أداء أمانته وتحقيق رسالته الإنسانية كما صوره تعالى في قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾([3])، فيسعى جاهدا إلى تعميره، ويتعاون مع بني نوعه على بناء مجتمع إنساني يسوده الإيمان الحق والخلق الكريم.
لكن الذي ملأ خاطر هذا الإنسان هو تحقيق مطامعه الحيوانية، فيتصرف تصرف الحيوان، يغريه ما يغري الحيوان، وينظر إلى بني نوعه بمنظار المنافسة، وطبيعي أن يعامل منافسيه معاملة يتراكم فيها المكر والخداع وتتبع العيوب والمساوئ، فلا غروَ إذا نبتتْ في كيانه جراثيمُ التكبر والحقد، ولا شك أنهما منطلق كل أنواع الجحود، أمثال جحد بالخالق ، وجحد بالحقيقة، وجحد بفضيلة الغير.
ولعل ما أوردنا فيما سبق هو سر الأسرار لفساد علاقة الإنسان مع بني نوعه، زِدْ على ذلك الطابع المادي الوافد على حياة الإنسان المؤمن، فيمتزج بها تمام الامتزاج، فهذا الطابع يتجسد في نظرية الحياة التي تسود هذا العصر وتحكم عليه ألا وهي: «النظر في كل مسألة وشأن من ناحية المعدة والجيب»([4]). فأصبحت المصلحة الجشعة بذلك محورَ الحركة الأساسي في علاقة الإنسان مع بني نوعه.
ومن هذا المنطلق صار الجاه مقياسا للفضل، ومعيارا للشرف، فلا عجب إذا شاع في حاضرنا نوع من استعباد الناس، إذ تزاحمت الفجوة الاقتصادية في مجتمعنا، فالغني يزداد غنًى، والفقير يزداد فقرا، وأصبح أصحاب الجاه والمناصب ألهةً، والناس في الطبقة البائسة لهم عبيدا، يتقربون إليهم بالمدائح الزائفة والميول الكاذبة، استباحا لهم في إشباع مطامعهم على أملاك هؤلاء الأغنياء.
ثم انتشر في مجتمعنا كل ما يدعو إلى ارتكاب الفواحش، والتمادي فيها.. فما ظنك أنت إذا أصاب أفرادَ المجتمع نوعٌ من الفراغ، وأمامهم فرصة سانحة للخوض في الملذات، والغوص في اللهو؛ أفلا يكون المصير إلا إلى الفساد الفكري والخلقي؟! وإذا تذاوب هذا الفساد مع عقلية المجتمع ونفسيته في أزمان طوال، أفلا يكون الفساد إلا طابعا حتميا لذلك المجتمع؟! وإذا انطبع الفساد في عقلية المجتمع ونفسيته، فلا جرم إذا انقلبت الفطرةُ السليمة التي يعرف الإنسانُ بها خالقَه فاسدةً، والذوقُ السليم الذي يتذوق به الأشياءَ الحميدة مرتكسًا.
ونحن عن مخاطر البيئة الفاسدة نستحسن ما قاله العلامة محمد الغزالي: «والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة، فهي تمسخها وتشرد بها، وتخلف فيها من العلل، ما يجعلها تعاف العذبَ وتسيغ الفجَّ، وذاك سر انصرف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح، وقبولهم للكفر والشرك، مع منافاة ذلك لمنطق العقل، وضرورات الفكر وأصل الخلقة»([5]).   
ومن هنا ترى كيف تتشعب المخاطر التي يتعرض لها مجتمعنا، فالمخاطر لا تأتي من البيئة الفاسدة فحسب، بل تأتي -كما مر بنا- من تلقاء نفس الإنسان الذي يتكون منه المجتمع.. ولَعَمْري، ما عسى نحن فاعلون؟ فكأن زوايا الحياة جمعاء قد تجاوبت على إبعاد العباد عن المعبود سبحانه، وتعاونت على إخفاء معين الهداية الصافي، وتوافقت على طمس بواعث الإيمان في النفوس والجهاد في سبيله، وتداعمت على الانحطاط بالإنسانية إلى أحط الدركات.
السمو الاجتماعي بالإنسانية على منهج الإسلام
ما جاء الإسلام إلا ليعود بالإنسان إلى سيرته الأولى في أصل الخلقة، والقرآن -وهو دستور الإسلام الأول- إنما نزل ليأخذ بيد الإنسان ويُرِيَه قيمتَه الذاتية، بعد أن خاض في غفلة داجية، وغاص في ذلة خابية، فيعي بهذا الكتاب المجيد أنه -كما قال الإمام محمد عبده- «عبد لله وحده، وسيد لكل شيء بعده»، فيعيش -بعد اهتدائه بهذا القرآن- حياة الأسياد التي تتأبى عن التذلل لوجه الخلق أيًّا ما كان الأمر، ويتسم بما اتسم به الأسياد من غزارة في العلم، وسعة في الثقافة، ووفرة في الخبرة، ويتصف بما اتصف به الأسياد من الرجولة والحلم والشجاعة والكرم والوفاء والحياء والعفاف، ويتصرف تصرف الأسياد من إيثار غيره على نفسه، وبذل أقصى الجهود في تحقيق العدل والأمن بين بني نوعه.
فلا يَهْجِسَنَّ في أنفسنا أن حياة الأسياد هيِّنةٌ ميسورةٌ كما نتصورها، وإلا لما تعرضت أوضاع العالم إلى الانحطاط الكلي بالإنسانية، إذ أصبح بنو آدم كلهم أسيادا، يراعون أنفسهم دائما على أفضل أحوالها، ولنعلمْ أن في السيادة مشقةً لا قِبلَ لها، ولا ينقاد لها -كما قال الماوردي- «إلا من تسهَّلتْ عليه المشاقُّ رغبةً في الحمد، وهانتْ عليه الملاذُ حذرًا من الذمّ، ولذلك قيل: سيد القوم أشقاهم»([6])، وعن مشقة السيادة قال المتنبي([7]):
لَولَا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ * الجُوْدُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ
وما السنة النبوية المطهرة إلا نموذجٌ فريد لحياة الأسياد الحقة، وبيانٌ مفصل لما ينبغي أن يتحلى به الأسياد، ودليلٌ واضح أن هذا النوع من الحياة السامية قد تحقق مرة بعد مرات في تاريخ البشرية.. إذن، فما بال هذه الحياة الشريفة لا تتحقق في حاضرنا، ونحن مع هؤلاء الكبار سواسية في أصل الخلقة، وفي إمكانية تحقيقها، ويقوي تلك الإمكانيةَ أن بين أيدينا نفسَ الكتاب الذي كانوا بهديه مهتدين.
وما أظن أن تعاليم الإسلام -التي هي منبع وحيد لكل أنواع الرقي والسمو بالإنسانية- جاءت لتكون تاريخا يُذكَر وطقوسا تُتلَى، بل إنما جاءت لتكون واقعة تُحقَّق وأسوة تُقتَدى. نعم، لقد سدّتْ حاضرَنا عن تحقيقها أزمةٌ روحية، وعاقَنا عن التأسي بها جفافٌ عاطفي، فضلا عن معرفة أي نوع من الحياة السوية -المقتبسة من القرآن والسنة النبوية- التي تحققت في تاريخ البشرية.
 لنعرف قليلا لوازم السمو الاجتماعي بالإنسانية على منهج الإسلام:
1.     إيمان المجتمع الصادق بالله
فالمجتمع الوحيد الذي استطاع أن يبدي ما للإنسانية من عجائب هو المجتمع المؤمن بالله الأحد حق الإيمان، ولمعترض أن يعترض علينا أن الإيمان ليس عاملا رئيسا في استخراج تلك العجائب، والغربيون الذين أصبحوا خير مثال في الجحد بالله، استطاعوا أن يحققوا سيادة الإنسان في الكون بمواهبهم الفذة من إنتاجات عجيبة مبهرة، ويستولوا بها على العالم أجمع، ويفعلوا بها ما يشاءون.
فنقول لهم: صحيح أنهم وصلوا بالعلوم والصناعات إلى مرحلة لا يُعقَل جحدُ آثارها، لكن ما هي إلا رزايا على الإنسانية جمعاء، وما الحربان العالميتان في القرن العشرين إلا مقدمة لحروب أكثر فظاعة وبشاعة في المستقبل، فالنظرة العامة إلى الأوضاع السياسية السقيمة في العالم اليوم خذ سوء أوضاع أوكرانيا وتدخل روسيا وأمريكا عليها في أوائل مارس 2014م على سبيل المثال- تبدي لنا أن الحرب العظمى في انتظارِ أَوفَق توقيتٍ لبَدْئِها، وترقُّبِ أشجَع دُوَلٍ في إشعال نارها.
صحيح أنهم استطاعوا أن يبدي لنا العجائب المادية للإنسانية ، ولكنهم أخفقوا تمام الإخفاق في إظهار ما للإنسانية من العجائب الروحية، المتمثلة في حياة الأسياد الحقة السالفة الذكر، فظهروا أمام العالم -مع قوتهم الباسلة- أطفالا في عقولهم وتصرفاتهم، لا يفقهون ما لهم وما عليهم، ولا يهتدون سبيلا، وما القنبلة الذرية في هيروشيما ونجاساكي، إلا نموذج ساذج عن عدم فقههم لمعاني الإنسانية السامية، بالإضافة إلى فقْدِ مشاعرهم وموتِ ضمائرهم.
ومما سبق تبين لنا أن ما قصدناه  من عجائب الإنسانية، هو العجائب المادية والروحية لها على السواء، فهذا النوع من العجائب لن يتحقق للإنسانية إلا حين يؤمن ذلك المجتمع ببارئه سبحانه، وينقاد متضرعا لتعاليمه، فهذا الإيمان الصادق والعجائب الإنسانية هما اللذان يخلقان التوازن في كل ناحية من نواحي الحياة.
ولنتصفح صفحات تاريخنا لنتَيقَّنَ أن الإيمان الصادق بالله وحده، هو القادر على تحقيق حياة الأسياد الحقة، واستخراج عجائب الإنسانية الكامنة، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين حققوا حياة الأسياد، فهم قوم متّصفون بقوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾([8])، ومتّسمون بقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود﴾([9]).
ومن مظاهر عجائب الإنسانية فيهم بسبب إيمانهم أن «انقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلابا عجيبا، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله، انقلبت حياته ظهرا لبطن؛ تغلغل الإيمان في أحشائه، وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الدم والروح، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها، وغمر العقل والقلب بفيضانه، وجعل منه رجلا غير الرجل، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حيَّر العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق»([10]).
أضف إلى ذلك أنهم كانوا سُذَّجًا كلَّ السذاجة قبل إسلامهم، وما عثرنا عليه من طبيعة العرب ونفسيتهم وعقليتهم -في مقدمة العلامة ابن خلدون، وفجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين- يزيدنا يقينا أنهم في منتهى التخلف علميا وثقافيا وحضاريا عن غيرهم من الأمم، ونحن بعد ذلك نستطيع أن نستبعد إمكانية تغلب العرب على الفرس والروم حينئذ، ذلك بعد مقارنة أحوال العرب السَمِجَة بالنسبة إلى كلتا الأمتين العظيمتين. لكن ماذا حدث؟ المسلمون العرب قادرون على تغلب الأمم المجاورة لهم. وما السر في ذلك؟ إنه الإيمان العميق بالله وحده هو الذي يستطيع أن يفعل ذلك، بتأثيره البَيِّن في عقلية هؤلاء العرب ونفسيتهم وأساليب حياتهم. ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾([11]).
2.     مبالغة المجتمع في مراعاة الناحية الأخلاقية
لعل القارئ يتساءل: لماذا أضفنا كلمة «مبالغة» إلى المجتمع؟ فنقول له: لأن الأخلاق -وهي من لوازم صدق الإيمان- لا تتكون في يوم أو يومين، ولا بد لها من تربية تدوم، وتهذيب يطول، لا سيما في مراحل النشوء، أضف إلى ذلك لوازمَ الانحطاط الأخلاقي الدخيلة من وسائل لا تعد التي تحيط بنا، مما تضطرُّنا -بعد غرس الإيمان في النفوس- إلى بذل ما وسعنا في مراعاة الناحية الأخلاقية.
وأخلاق المجتمع الكريمة دليل على قوة إيمانهم بالله، لأن الإيمان الصادق يستوجب المؤمن أن يكون متحلِّيا بمكارم الأخلاق مهما كانت الظروف.. وما انغمس مجتمعنا في فساد أخلاقي، وهبوط إنساني، إلا وقلوبهم قد خلتْ من الإيمان،  ولعل هذا ما قصده رسول الله صلى الله علي وسلم عندما يقول: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»([12])، ومن هنا نستنبط أن مكارم الأخلاق نتيجة حتمية لصدق الإيمان.
إذا كان الإيمان سمة روحية للإنسانية، فمكارم الأخلاق سمة جسدية لها كما أسلفنا. ولعمري، هل يصح للإنسان أن يسمى حيا، إذا كان كائنا من جسد فقط أو روح فحسب؟ كلا.. بل لا بد من كليهما. كذلك الإيمان ومكارم الأخلاق، وعلى ذلك لم يكن ديننا قليل الاهتمام والعناية بالأخلاق، بل أخذت مكارمُ الأخلاق مكانةً عظيمة في الإسلام، حيث جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصدا أسمى من بعثته إذ قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق»([13]).
ولنتجه إلى تعاليم القرآن لنعلم مدى اهتمامها بمراعاة أخلاق المجتمع.. فمن يقرأ سورة النور -على سبيل المثال- يجدها حافلة بآداب الحياة الاجتماعية، بل آخذةً سبيلَ الشدة على وجوب التحلي بها، كما صورها قوله تعال في مستهل السورة: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾([14])، وسبيلَ الحزمِ في إقامة الحدود على مرتكبي الفاحشة بدون ترددٍ كما في قوله: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾([15]). ومن هنا يتبين لنا -كما قال الأستاذ سيد قطب- «مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية»([16]).
الخاتمة
وبعد، فخلاصة ما سبق أننا إذا أردنا أن يسمو مجتمعُنا بالإنسانية، فلا بد من فهم الإنسانية على وجهها الصحيح، فالإنسانية الحقة هي عندما يكون الإنسان عبدا لله وحده، وسيدا لكل شيء بعده. والإنسانية الحقة هي عندما يحقق الإنسان سيادته في الكون، فيحيا حياة الأسياد الحقة، ويتصرف تصرف الأسياد، ويتصف بما اتصف به الأسياد، ويتخلق بأخلاق الأسياد.
ومع ذلك فإننا اعترفنا بأن حياة الأسياد ليست هينة ميسورة التطبيق كما أسلفنا، لكن مهما يكن صعب تطبيقها مرتقِيًا، فإن ذلك ليس مبررا للخنوع على الذلّ، والخضوع للأعراف الفاسدة، لأننا وجدنا في تاريخ البشرية مجتمعا يطبقون حياة الأسياد الحقة، وكيف تتجلى منهم عجائب الإنسانية، روحية كانت أو مادية.
ووصلنا إلى أن الذي جعل حياة الأسياد الحقة متحقّقة التطبيق هو إيمان المجتمع الصادق بالله، ومبالغتهم في مراعاة الناحية الأخلاقية، ذلك لأن صدق الإيمان سمة روحية للإنسانية، ومكارم الأخلاق سمة جسدية لها.. ومن ثم، فالذي يهمنا حاليا تجاه مجتمعنا هو كيف نجعل الإيمانَ مُترسِّخًا في قلوبهم، ومكارمَ الأخلاق منطبعةً في سلوكهم.
وأصبح مجتمعنا -برسوخ الإيمان وانطباع مكارم الأخلاق- خاليا عن كوادر الأهواء الطائشة، فيجد الاطمئنانُ مكانَه في القلوب، والأمنُ مستقرَّه في البيوتات كما سبق أن قلنا، ويتحقق كون الإنسان متديِّنًا بالفطرة فينقاد إلى تعاليم خالقه متضرعا؛ ومدَنِيًّا بالطبع فيتعاون مع بني نوعه على البر والتقوى، ويحقق معنى الإخاء فيتكافل ويتكامل. ولا شك إذا اتسم مجتمعنا بتلك الأوصاف الفاضلة، فإننا قد حققنا الخيرية في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه﴾([17]). والله أعلم!
مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 4 من مارس 2014


أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر
ورئيس التحرير لمجلة «الطيف»
عنوان البريد الالكتروني: fetryx_hariadi@yahoo.com




([1]) سورة الإسراء: 70
([2]) سورة الأحزاب: 72
([3]) سورة الجاثية: 12-13
([4]) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، (دمشق: دار القلم، ط4، 2010م)، ص198.
([5]) محمد الغزالي، عقيدة المسلم، (دمشق: دار القلم، ط12، 2012م)، ص38.
([6]) أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، (القاهرة: جنة الأفكار، 2006م)، ص309.
([7]) أبو الطيب المتنبي، ديوان المتنبي، تحقيق: عبد المنعم خفاجي وغيره، (القاهرة: مكتبة مصر، 1994م)، ص305.
([8]) سورة المائدة: 54
([9]) سورة الفتح: 29
([10]) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص105.
([11]) سورة الأنعام: 122
([12]) رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه (2475).
([13]) رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه (10/191).
([14]) سورة النور: 1
([15]) سورة النور: 2
([16]) سيد قطب، في ظلال القرآن، (القاهرة: دار الشروق، ط39، 2011م)، 4/2486.
([17]) سورة آل عمران: 110