قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

عندما لا يعرفون أقدار أنفسهم

بقلم: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي([1])
مما يقرر عند أصحاب العقول الرشيدة، أنه لا يعرف قدرِ رجل إلا رجل مثله، وعلى هذا الأساس تجلى الحياء في صورته الصادقة، وتزكّى الخلق في نوعه الفريد، وسعى عليه الإنسان محترما، وسما به نجمه متألقا، لأنه لن يخسر أبدا من يعرف قدره، فيراقب ما ينطقه لسانه، ويراعي ما تفعله جوارحه، ولن يندم من يعي نواقصه، فبدلا من مراعاة عيوب غيره والاشتغال بها، ينهض هو إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه.
وعلى ذلك الأساس قُدِّر المرء حق قدره، وتدفق نحوه احترام أقرانه مهما تكن جادة الإختلاف بينه وبينهم، وظل هذا الاحترام يلون مجالسهم إلى الأبد، فلا تسمع آذانُ الناس إلا محاسن كل منهم، فإلى رؤيتهم تشتاق النفوس، وإلى أحاديثهم تلتهب القلوب عطشا.
أجل.. إنهم رجال لفظا ومعنى، جملة وتفصيلا، بهم تتفتح زهور التقوى، وتترسخ جذور الإيمان، وبعد استماع الورى إليهم تتصور ملامح الجد، وتتركز مجامع القوة، ومن آثار فكرتهم تنغرس في نفوس الأمة أسباب التقدم، وتنبسط أمام المسلمين أسباب الزعامة، فيسعون لمجاراة المتقدمين، وجهاد الظالمين، وتحقيق العدالة، وإعادة الكرامة الإنسانية إلى سيرتها الأولى.
وبعد، فهذا وصف من تتداعى الأصوات لتلبية دعوتهم، وما يحول بينهم وبين مقاصدهم العظام إلا حثالة، وبدَهيّ أن تسعى جمهرة الحثالات لتشويه محاسن هؤلاء الرجال، وتأخذ كل أسباب تمكنها في تشييع مساوئهم بين الناس، وكيف لا، فإنها تملك ثروة موفورة لإنجاز مشروعها، فيتجمع لها فقراء الإعلاميين ومساكين الصحفيين، وفعلا.. يُبدأ مشروع إقصاء الرجال الشرفاء، واغتيال شخصياتهم المرموقة.
ومن هنا فلا عجب إذا استغلت جمهرة الحثالات -في سبيل الإنجاز- رجالَ الدين والجامعات، فأصبحت المنابر مصدرا للحقد والبغضاء، والحلقات الدراسية منبعا للتعصب الأعمى والعنصرية الجامحة، لكن النابهين استطاعوا أن يستدركوا من خلال تلك الحوادث المخلصين منهم والمتسولين، والجُرَآءَ منهم والجبناء، والأحرار منهم والعبيد، والعقلاء منهم والجهلاء، والفُطْنَ منهم والمغترين.
واستطاعوا أيضا أن يستدركوا ما للسياسة البائسة من قوة جبارة ساخرة، فبها يتقلب الشيوخ أطفالا، فأصبحت أفكارهم طفولية، وتصرفاتهم طفولية، وقراراتهم طفولية، وبها يعرف الأعداء في بُرَد الأصدقاء، وبها لم يخجل نواشئ الأكاديميين من أنفسهم عندما يتطاولون على العلماء الرجال والمثقفين الشرفاء، ظَانِّينَ أن تقلدهم عدة أنواع المناصب وقراءتهم بعضَ الكتب، قد أتاحَا لهم أن يطعنوا في شخصية هؤلاء الرجال، ويتّهموهم بما لا يليق بهم من جهل وقصور وما إلى ذلك. فبئس الظن..!
وبها أصبح الناس -مهما تكن طبقاتهم- لا يعرفون ما هو الإخاء؟ وما هو الوفاء؟ وما هو الثبات؟ وما هو الحزم؟ وما هو الاحترام؟ ذلك لأن المصلحة أصبحت معبدا يطوف حوله السياسيون وأتباعهم، وبها أصبحت الشخصية تنطمس في مواكب المفاخرة الحزبية الزائفة، وبها تنافست الأحزاب في إملاء مسامع العباد أن الحق عندها، إن هذا إلا الظن، والظن -كما يقول سبحانه- ﴿لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.
والعجيب أن رأينا في مناكب الحياة من لا يعرف قدر نفسه من شيء، فيظن أن سبيله الميسر في ترقية مناصبه من القاع إلى القمة -بمدح أصحاب المناصب والدفاع عنهم- قد غيَّرَ أنظار الناس إلى نفسه، فيتصرف كأنه صاحب الفضيلة الحقة والعلوم العميقة والتجارب الواسعة.. فوا أسفا عليه!
لكن الأعجب من ذلك أن رأيناه لا يستحي من نفسه ومن الله تعالى عندما يصف هؤلاء العلماء الرجال بالضلالة، والحق أنه من هؤلاء الرجال لا يساوي شيئا، لا في علمومهم، ولا في تجاربهم، ولا في إنجازاتهم من الكتب والبحوث.. شتان!
وكيف يصح عند أصحاب العقول أن قام من سبقه في العلم والفضل من أكابر العلماء وعظائم الحكماء بتعظيم هؤلاء العلماء الرجال وتبجيلهم، وتقديرهم حق تقدير، والاعتراف بحسن بلائهم للإسلام والمسلمين – وقام هو ومن تبعه من هؤلاء الصغار والقصار بسَبِّهم ووصفهم بالضلالة ومحاولة الإقصاء عليهم علميا واجتماعيا..؟! أُفٍّ له ولمن تبعه! أفلا يجلسون إلى أنفسهم حينا من الوقت يراقب كل واحد نفسه ويسائلها: ما هذا الذي فعلته؟ يا وَيْلِي! أين أنا من هؤلاء العلماء الرجال؟
فيا للأسف! أنَّى يكون لهم ذلك، فقد منعتهم مصالحهم، وسدّتْهم كبرياؤهم، وعاقتْهم ضغائنهم. لكن مهما تكن محاولتهم السفيهة لإقصاء هؤلاء الرجال، فإنها لا تكون إلا حجة عليهم، ذلك لأن الرجال كرهوا أن يشغلهم هؤلاء القصار، ففضلوا السكوت، يزيد القصار سفاهة ويزيد الرجال حلما، كعود زاده الإحراق طيبا..
يا ليت رشدهم يعود إلى أنفسهم!
مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 31 من يناير 2014




([1]) طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر الشريف. 

ويبقى الأزهر مهما يقولوا

بقلم: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي([1])
تبعا لما تداولته وسائل الإعلام المصرية من انفجار المظاهرات والاحتجاجات في ساحات جامعة الأزهر على المستوى الجمهوري، حاولت صحيفة «أخبار الأدب» أن تبدي للجميع ما خفي عن الجماهير من حقائق التعاليم الأزهرية وما عليه طلبة الأزهر من العادات والأنشطة والميول الفكرية، فنشرت ثمان مقالات للمتخرجين في الأزهر المصريين، في العدد 1069 بتاريخ 19 من يناير 2014م.
فبعد قراءتي تلك المقالات شعرت بشيء من الذهول والضيق.. وكيف لا، فقدْ فقدَ الأزهر قيمته عند هؤلاء الكتاب المتخرجين فيه، ولا أكاد أجد سطرا من سطور مقالاتهم إلا وصاحبه نوع من الاستخفاف والسخرية بالأزهر، بل وجدت فيها اتهامات لا يعقل خروجها من أفواههم، إذ ليس صحيحا في الطبع -كما يقول البرتغاليون- أن يتفل أحد في الصحن الذي يأكل منه.
فلم يخجل أحدهم من نفسه ومن الواقع عندما يقول: «الأزهر باختصار هو الرجل التائه الذي وقف في منتصف الطرق، فلا استطاع ضخ تعليم ديني يقوم على التفكير والتجديد والمجادلة، وتنقية النصوص الدينية ومساءلتها ومساءلة ناقليها، ولا استطاع أن يكون تعليما علمانيا يستطيع خريجوه أن يتعلموا الطب والصيدلية والهندسة مثل أقرانهم في الجامعات الأخرى».
وأضاف: «فصارت المحصلة النهائية: تخريج عدد كبير من الطلاب المتطرفين الذين يتبنون مذاهب لا تحترم الآخر المختلف عقائديا بل ولا تسمح بوجوده، بالإضافة إلى ذلك  ضيق الأفق والخيال والإيمان بحقائق مطلقة. التعليم الأزهري بشكل أو بآخر صورة مصغرة لكل التشدد الديني في المجتمع، من الكثير من الغرور أنهم يعرفون ما لا يعرفه الآخر. ما يعني أن وسطية الأزهر ليست إلا محض خرافة ابتدعها أحدهم وتبناها الجميع دون أن يراجعوها أو يفندوا حقيقتها». اهـ
ولست أدري أهذه المقولة نوع من الجهل أو التجاهل، أما إذا كان الجهل فعذره، وهذه المناسبة لَفرصة سانحة لإبصاره ما فاته من حقيقة. وأما إذا كان التجاهل فلا سبيل لنا إلى التدخل في شأنه، وماذا سيفيده من سرد الأدلة على خطأٍ مَا ذهب إليه إذا كانت الأنانية مانعة، والكبرياء حائلة، والضغينة حاجزة؟! شتان!
وكدْتُ أشك في أزهريّة صاحب المقالة، عندما ينكر شيئا يكاد الأزاهرة يعتبرونه ضرورة عندهم، ومن أين له أن الأزهر لا يضخ تعاليمه لتقوم على التفكير والتجديد والمجادلة والتنقية والمساءلة وما إلى ذلك؟! ومن أين له أن التعليم الأزهري صورة مصغرة لكل التشدد الديني في المجتمع؟! وا أسفا عليك أيها الكاتب! ما هذا الخلل الفكري؟! إن كلامك هذا لا يحتاج إلى رد، فهو حجة عليك جملة وتفصيلا، وخيل إليّ أن الأزهر كأنه يقول لك:
يخاطبني السفيه بكل قبح ** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ** كعودٍ زاده الإحراق طيبا  
وهناك مقالة عَنوَنَها كاتبها بـ«ذكريات الوعاء الخاوي من العلم»، ونظرة في المقالة ترينا ما كان للكاتب على الأزهر من حقد دفين، فالمقالة تتكلم عن أخلاق أقران الكاتب المنحطة عندما درس هو وأقرانه في الأزهر، وعن القصور الذي وجده فيه، بل وعن شيء يستنفر ذو المروءة الصادقة والذوق السليم منه، ويبدي لنا ما لهم -إن شئت فقل: ما له- من الشهوة الجنسية الجامحة وانتكاس في الذوق البشري مع أنهم يدرسون في الأزهر.
وبدون حياء يقول: «كانت كارثة إذا عبرت فتاة مصادفة داخل الجامعة حتى لو كانت منتقبة، فالطلاب يجردونها بأعينهم من ملابسها، بل إنهم ذات مرة قاموا بمضايقة طالب إندونيسي كان لديه شعر طويل مسترسل وكان يسير بميوعة قليلا، وإذا بالشباب يعاكسونه ويطاردونه كأنه فتاة».
والآن نتساءل: لمَ لم يعنونها بـ«ذكريات طلبة الوعاء الخاوين من العلم»؟! فإن هذا العنوان لأنسب وأليق بها، ذلك أن الأزهر -كمؤسسة من المؤسسات التعليمية- له ميزته وطبيعته، ومن حقه أن يقرر موادا تلائم رسالته السامية من المحافظة على القديم الصالح، والأخذ بالجديد الأصلح – إن صح هذا التعبير، وأنت إن لم تجد فيه شيئا يغريك، فليس صحيحا في الطبع اتهامه بأنه وعاء خاو من العلم، لأن الخاوي من العلم هؤلاء الطلبة المتحجرة عقولهم المتجمدة قلوبهم.
ولستُ بعيدا عن الصواب إن أقطع بأن أية مؤسسة تعليمية -مهما يكن كمالها ووفور الأشياء المقومة لتخريج ذوي الكفاءة الناجمة في تخصصهم- لا تثير من شيء فيمن يتحجر عقله ويتجمد قلبه. وعلى ذلك فمن الشلل أن تلتحق بمؤسسة تعليمية لا تتفق ورغبتك، ثم من الجهل أن تمسك العداوة على تلك المؤسسة في قلبك وتتربص لفرصتها. وقديما قال الشاعر:
الحقد داء دفين ليس يحملها ** إلا جهول مليء النفس بالعلل
ما لي وللحقد يشقيني وأحمله ** إني إذن لغبي فاقد الحيل
سلامة الصدر أهنَا لي وأرحبُ لي ** ومركب المجد أحلى لي من الزلل
ثم هناك سيدة تزعم أنها تعمل في جامعة الأزهر فتقول: «فقد أحسست بأنني بدأت أتنفس حينما تخرجت فيها (أي: جامعة الأزهر) قبل عشر سنوات، ورجعت لأحبس أنفاسي مرة أخرى، وأقدم قدما وأؤخر أخرى قبل أن أعود إليها الآن -لأسباب لها علاقة بالحياة أكثر من علاقتها برغبتي في العمل في الجامعة- حابسة الأنفاس».
ومن مقالتها ترى أنها ممن غلب على أنفسهم النظرة المادية، فالأزهر -يا سيدتي- ليس مكانا تطلبين منه ثروة موفورة لتعيشي سعيدة باسمة، كلا.. إنه مربى يُربَّى فيه رجال -مهما يكن قصورهم المادي- مخلصون للدين والأمة والوطن، ينحني لهم وجوه الملوك والرؤساء، فأخبريني يا سيدتي هل هناك رجل من رجال الدولة بَجّله ملك انجلترا كما بجل ملك جورج الخامس الإمام الشيخ مصطفى المراغي؟!
وهل هناك أحد يفيض عليه احترام الرؤساء والشعوب في العالم له كما كان لشيوخ الأزهر؟! فإن كنتِ على شك فيما قلت، فاقرئي سيرة حياة الإمام الدكتور عبد الحليم محمود تجدي جموعا محتشدة هرعت لاستقبال الإمام في الهند وباكستان وماليزيا والمغرب وغيرها من البلدان، وكذلك عندما استقبل جمع غفير من الناس الإمام جاد الحق في جاكرتا.
إلا أني -وأنا طالب وافد- لا أستطيع الإنكار عندما تقولين: «فنظرة المجتمع (المصري) دائما لطالب الأزهر كانت تتمحور في أنه الطالب الفقير ماديا وعلميا». نعم، لقد أحسست بما قلت عندما أتعامل مع المصريين واعترفت به، لكن لتعلمي -مهما تكن نظرة المجتمع- أننا معشر الوافدين نعتبر الأزهر قلب هذا البلد، له مكانته في قلوب الأمة الإسلامية الناطقة بغير العربية، فلولاه لما عَرفتْ مصرَ كما هي حاليا، ولما وجدت مصرُ مكانتها عند الدول العربية -بل عند العالم- فيما تتعلق بالإسلام من علوم وحضارة.
ولتعلمي يا سيدتي أن دول جنوب شرق آسيا حاليا تزدهر مسايرةً فخامةَ الدول الغربية من حيث العلوم والبناء والصناعة والاقتصاد، وأن أحوال سكانها الراقية تتأبى عن التذلل لعطاء العرب المادي، كلا.. إنما هم يحتاجون إلى العطاء الروحي والتربية الإسلامية، فما أحوجهم إلى من يعلمهم الإسلام كما كان للعرب في عصر الرسالة! وما أحوجهم إلى من يفهمهم القرآن والسنة فيستنيرون بهداهما! وما أحوجهم إلى من يرد إليهم إيمانهم بهذا الدين الذي -كما قيل- يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يأخذونه بالمعرفة!
إنه الأزهر يا سيدتي، إنه الأزهر وحده الكفيل بهذه الأعباء الثقال، فهو مقصد كل من يريد الإسلام النقي والعربية الأصيلة، ولهذا تدفقت نحوه جمهرة الطلبة من كل بقاع العالم، بغض النظر عن كل أنواع القصور فيه، فمهلا يا سيدتي! مهلا في الأزهر!
وبعد، فهذا ما وفقني الله تعالى عليه في توفية حق الأزهر عليّ، عندما يحاول بعض الناس الاستخاف والسخرية به، وكيف لا فقد أنعم الله عليّ نعمة التعلم بالأزهر الشريف، وكفاني شرفا أن أحب الأزهر حبا جما، وإن لم أكن على نهج الأزاهرة الشرفاء علما وثقافة وسلوكا، واسمح لي في هذا الختام أن أقول هذه الأبيات المتواضعة:
ويبقى أزهرٌ مهما يقولوا ** حصينا حافظا نورا حليما
لقد ملأَ الدُّنَى بالسمْح فاشهد ** فلولاه لظل الدين ضيما
لئن صمتوا على الجهد الفريد ** فما زال العطا دفْقا عظيما

مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 20 من يناير 2014م



([1]) طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر الشريف. 

الشيخ صفوان حكيم: إمام الدعاة في جزيرة لومبوك

الشيخ صفوان بعد استلامه جائزة كالباتارو للحفاظ على البيئة من رئيس الجمهورية الإندونيسية في قصر الاستقلال بجاكرتا سنة 2011
بقلم تلميذه: أحمد سترياوان هريادي
من أهم رجال الدعوة في محافظة نوسا تنجارا الغربية – إندونيسيا، وأبرزهم في العصر الحديث هو الأستاذ الشيخ صفوان حكيم بن عبد الكريم، فقد تمتع هذا الشيخ الجليل بمواهب شتى  اكتمل بها كونه عالما فقيها داعيا كاتبا.
ولعل أبزرَ دليل على ذلك استحسانُه كل وسائل لتحقيق أهدافه الدعوية، من مشاركته في المؤتمرات والندوات العلمية، وكتابته مقالة أسبوعية بجريدة «لومبوك بوست»، وتأليفه كتاب «فقه الأمة»؛ أجاب من خلاله استفتاءات الجماهير عن المسائل الدينية والقضايا الفقهية المعاصرة، وعقْدِ حلقات دينية في إحدى القنوات الفضائية المحلية والإذاعات المتعددة، وغيرها من وسائل.
ومن ثَمَّ فلا عجب أن رأينا نجمَه متألقًا ذائعَ الصِّيت، حين اكتفى معظم رجال الدعوة في تلك المحافظة باستخدام وسيلة أو وسيلتين في أعمالهم الدعوية، حتى لم نر لدعوتهم عند الجماهير أثرا فعَّالا، ولا لأسلوبهم الدعوي تجددا مشهودا. وقلَّ أن نجد منهم من أحسن الكتابة حيث تصبح دعوتهم لا تنحصر في الطبقة الشعبية فقط، بل تشمل الطبقة المتعلمة والطبقة الأرستقراطية من الناس.
ومن ميزات الشيخ حفظه الله أنه أتقن الإنجليزية كل الإتقان، فضلا عن إتقانه العربية، فلا غرو أن أصبح الشيخ معروفا لدى الجماهير بأنه شخصية ذات ثقافة واسعة، بالإضافة إلى علمه الغزير ومعرفته العميقة، مما جعلت العلماء المتصنعين والمثقفين المتسولين هائجين عندما أرادوا الاستخفاف بالشيخ الجليل.
ومن سماته البارزة أنه لا ينتمي إلى أي حزب من الأحزاب السياسية كما كان عليه غيره من رجال الدين، ولا إلى جمعية من الجمعيات أمثال جمعية «نهضة العلماء» وجمعية «نهضة الوطن» والجمعية المحمدية وغيرها، ولعل السر في ذلك -كما يظهر لي- أن الشيخ قد آثر أن تكون نفسه ملكا للمسلمين أجمعين ووقفا لهم، بدل أن تكون صالحة لطائفة، وغير صالحة لطائفة أخرى لاختلاف الأحزاب والجمعيات.
***
اشتغل الشيخ صفوان بمنصب شيخ المعهد «نور الحكيم» الشهير في كديري لومبوك الغربية، منذ سنة 1977م إلى يومنا هذا، وذلك بعد وفاة أبيه العلامة الشيخ عبد الكريم رحمه الله الذي أسس هذا المعهد سنة 1948م. وفي رأيي، إن الشيخ صفوان هو المؤسس الحقيقي لهذا المعهد، إذ صار على يديه مؤسسة تعليمية رسمية معترَفة لدى الحكومة والجماهير، وقبلة لطلبة العلوم الشرعية والحديثة، ولسانا ناطقا ذا سمعة وهيبة لدى المجتمع. وبجهوده البازرة -بعد فضل الله تعالى- تم في عهده إنشاء المدراس لجميع المراحل الدراسية من الابتدائية إلى المرحلة الجامعية، بعد أن كان المعهد -في عهد أبيه- مجرد السكن لعشرات الطلبة لمدة ثلاثين سنة تدرس فيه العلوم الدينية فحسب. وفي عهده أيضا أصبح معهد «نور الحكيم» -بفضل الله تعالى- أكبر مؤسسة تعليمية إسلامية في محافظة نوسا تنجارا الغربية بعد معاهد نهضة الوطن في لومبوك الشرقية.
ومن أظهر ما قام به الشيخ صفوان منذ تسلّمَ ذلك المنصب هو إعداد رجال الدعوة وتكوينهم، فأحسن تربية الشباب، وباشر كل أسباب يكون بها تلامذته صالحين لتحمّل أعباء الدعوة الثقال، من حسن التعليم ودوام التثقيف، وعلى هذا اشتهر معهده بمعهد الدعوة أو بمعهد إعداد الدعاة.
برز كفاح الشيخ الدعوي ببثه المتواصل قوافل الدعوة مذ مستهل التسعينات إلى أنحاء الجزيرة، لا سيما إلى ناحية شمالها، إذ فيها قرية تسمى «بايان» التي بلغ أهلُها منتهًى من الانحراف والجمود والتخلف، بالنسبة إلى ما عداها من القرى. وبعد مرور السنين انجلى له -بفضل الله تعالى- ثمار كفاحه، حيث أصبح الشيخ الجليل أكثر العلماء والدعاة تأثيرا في منطقة شمال لومبوك، بجانب كفاح العلامة الشيخ محمد زين الدين عبد المجيد رحمه الله وتأثيره.       
وقُدّر للشيخ بالإضافة إلى اشتغاله بمنصب شيخ المعهد أن يكون رئيسا لكل الهيئات التي انضم إليها، واللجان التي اشترك فيها، فهو رئيس المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية فرع نوسا تنجارا الغربية، ورئيس المنتدى للتعاون بين المعاهد الدينية لمحافظة نوسا تنجارا الغربية، ورئيس مجلس العلماء الإندونيسي لمنطقة لومبوك الغربية، وغيرها من الهيئات واللجان، مما يطول بنا القول لو سردنا لك كلها.
***
إن الشيخ لنمَطٌ فريد في شخصية عالمة عاملة معلّمة، فرئاسته عدة الهيئات الإسلامية واللجان الدينية على مستوى المحافظة لأفصح دليل على مكانته العلمية، وتقدير العلماء له. أما كون الشيخ عاملا لعلمه فتجلى لمن لازم الشيخ، أو عرفه حق المعرفة. وإني لأشهد أنه ممن يشتد على نفسه في العبادة، فأضحت -على ما يظهر لي- النوافلُ له فرائضَ، فضلا عن الفرائض نفسها، ولم أر قط أنه ترك صلاة تحية المسجد مذ لازمته سنة 2003 إلى 2010 حيث سافرت إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف، ذلك بالإضافة إلى عباداته الأخرى التي لا يعرفها إلا أقاربه. وأما كونه معلما فذلك شيء لا سبيل إلى إنكاره، إذ سرعان ما أفرغ نفسه للعلم من خلال التعليم بعد عودته من مكة المكرمة في أوائل السبعينيات إلى يومنا هذا، وجموع المتخرجين في مرباه كل سنة على ذلك شهود.  
وإن الشيخ لمثَلٌ رائع في سماحة النفس، ورحابة الصدر، ووفاء الصداقة، فها هو ذا الذي ترك بابه مفتوحا ليسهل على ذوي الحاجات مقابلته، وهو لم يُدعَ ليلقي الدروس أو يؤم صلاة جنازة في أي مكان -مهما يكن بُعده- إلا ولبَّى تلك الدعوة. وإني أشهد ما بينه وبين الدكتور سالم السقاف الجفري وزير الاجتماعية الإندونيسي من صداقة صادقة ووفاء نادر عندما زاره ذلك الوزير في معهده، وكذا علاقته المتينة مع الأستاذ الدكتور محمد زين المجد الأزهري، محافظ نوسا تنجارا الغربية، وكذا مع غيرهما، لأوضح دليل على ما ذكرناه من قبل.     
والشيخ صفوان نموذج بارع في إصلاح أفكار المجتمع، والحفاظ على البيئة، ومحاربة الفساد. فكم كان يغريه كون الأمة الإسلامية أمة قارئة لا جاهلة، وناقدة لا مستغَلّة، ومتبوعة لا تابعة، وغنية لا فقيرة، بيد أن معظم الدعاة قد يكفيهم ذكر أهوال القيامة في حلقاتهم، أو إغراء الناس بفضائل الأعمال، بل منهم من يدعو إلى التقشف وإهمال الدنيا اللذين لا أساس لهما في ثوابت الكتاب، ولا في صحاح السنة.
أما اهتمامه بالحفاظ على البيئة فهذا مما تميز هو عن غيره، فلا تكاد تجد مضمون دروسه أو خطبه خاليا من دعوته إلى الحفاظ على البيئة، حتى لقد اشتهر بين الناس عبارته الشهيرة: «هدم مائة مبنى لأهون عليَّ من قطع شجرة واحدة»، وعلى هذا الأساس ترى معهده يشبه غابة في كثرة أشجارها، وعدم وصول الشمس إلى أرضها.
ومن مظاهر اهتمامه بالحفاظ على البيئة عقْدُه مشروعَ "زرع مليون شجرة" سنة 2005 على مستوى المحافظة، تحت إشراف منتدى التعاون بين المعاهد الدينية، وما زال هذا المشروع جاريا إلى يومنا هذا، وبسبب هذا الجهد الفريد حصل الشيخ صفوان على جائزة كالباتارو (KALPATARU) للحفاظ على البيئة من رئيس الجمهورية الإندونيسية سنة 2011.   
لكن من سوء حظ الشيخ الجليل أن يقل من يكتب عنه من تلامذته، مع أن له عليهم حقا، فكم من طلاب وطالبات تخرجوا في مرباه كل سنة، ولم نر لجهود الشيخ من أثر فيهم، بحيث يكتبون عنه مثلا، أو يشيعون ذكره، كما كان عليه تلامذة العلامة الشيخ محمد زين الدين عبد المجيد رحمه الله. وأرى أن على الجامعة الإسلامية «نور الحكيم» أن تعقد مشروعا لدراسة منهج الشيخ صفوان حكيم الدعوي وأثره في حياة المجتمع المعاصر.
وبعد، فهذا ما وفقني الله تعالى عليه في توفية حق شيخي وأستاذي صفوان حكيم عليّ، ومع ذلك فإني لم أذكر للشيخ إلا ما بدا لي أو شهدت له بنفسي خلال ملازمتي إياه، وإني أكبر الظن أن ما خفي عني لأكثر مما بدا، فإن أصبت فيما عرضت فحمدا لله، وإن أخطأت فحسبي أني قاصد الحق. والله أعلم!
«صَفْوَانُ» مَنْ سَــطَعَتْ مَآثِـرُهُ وَإِنْ    صَمَتَ الْوَرَى فَلَهُ كِفَاحٌ نَاطِقُ
«نُوْرُ الْحَكِيْمِ» عَلَى الْجُهُـوْدِ دَلِيْلُـهُ   وَاللَّهُ يَــشْــهَـدُ سَـعْـيَـهُ وَيُــرَافِـقُ

حفظك الله يا شيخنا!