ويبقى الأزهر مهما يقولوا

بقلم: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي([1])
تبعا لما تداولته وسائل الإعلام المصرية من انفجار المظاهرات والاحتجاجات في ساحات جامعة الأزهر على المستوى الجمهوري، حاولت صحيفة «أخبار الأدب» أن تبدي للجميع ما خفي عن الجماهير من حقائق التعاليم الأزهرية وما عليه طلبة الأزهر من العادات والأنشطة والميول الفكرية، فنشرت ثمان مقالات للمتخرجين في الأزهر المصريين، في العدد 1069 بتاريخ 19 من يناير 2014م.
فبعد قراءتي تلك المقالات شعرت بشيء من الذهول والضيق.. وكيف لا، فقدْ فقدَ الأزهر قيمته عند هؤلاء الكتاب المتخرجين فيه، ولا أكاد أجد سطرا من سطور مقالاتهم إلا وصاحبه نوع من الاستخفاف والسخرية بالأزهر، بل وجدت فيها اتهامات لا يعقل خروجها من أفواههم، إذ ليس صحيحا في الطبع -كما يقول البرتغاليون- أن يتفل أحد في الصحن الذي يأكل منه.
فلم يخجل أحدهم من نفسه ومن الواقع عندما يقول: «الأزهر باختصار هو الرجل التائه الذي وقف في منتصف الطرق، فلا استطاع ضخ تعليم ديني يقوم على التفكير والتجديد والمجادلة، وتنقية النصوص الدينية ومساءلتها ومساءلة ناقليها، ولا استطاع أن يكون تعليما علمانيا يستطيع خريجوه أن يتعلموا الطب والصيدلية والهندسة مثل أقرانهم في الجامعات الأخرى».
وأضاف: «فصارت المحصلة النهائية: تخريج عدد كبير من الطلاب المتطرفين الذين يتبنون مذاهب لا تحترم الآخر المختلف عقائديا بل ولا تسمح بوجوده، بالإضافة إلى ذلك  ضيق الأفق والخيال والإيمان بحقائق مطلقة. التعليم الأزهري بشكل أو بآخر صورة مصغرة لكل التشدد الديني في المجتمع، من الكثير من الغرور أنهم يعرفون ما لا يعرفه الآخر. ما يعني أن وسطية الأزهر ليست إلا محض خرافة ابتدعها أحدهم وتبناها الجميع دون أن يراجعوها أو يفندوا حقيقتها». اهـ
ولست أدري أهذه المقولة نوع من الجهل أو التجاهل، أما إذا كان الجهل فعذره، وهذه المناسبة لَفرصة سانحة لإبصاره ما فاته من حقيقة. وأما إذا كان التجاهل فلا سبيل لنا إلى التدخل في شأنه، وماذا سيفيده من سرد الأدلة على خطأٍ مَا ذهب إليه إذا كانت الأنانية مانعة، والكبرياء حائلة، والضغينة حاجزة؟! شتان!
وكدْتُ أشك في أزهريّة صاحب المقالة، عندما ينكر شيئا يكاد الأزاهرة يعتبرونه ضرورة عندهم، ومن أين له أن الأزهر لا يضخ تعاليمه لتقوم على التفكير والتجديد والمجادلة والتنقية والمساءلة وما إلى ذلك؟! ومن أين له أن التعليم الأزهري صورة مصغرة لكل التشدد الديني في المجتمع؟! وا أسفا عليك أيها الكاتب! ما هذا الخلل الفكري؟! إن كلامك هذا لا يحتاج إلى رد، فهو حجة عليك جملة وتفصيلا، وخيل إليّ أن الأزهر كأنه يقول لك:
يخاطبني السفيه بكل قبح ** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ** كعودٍ زاده الإحراق طيبا  
وهناك مقالة عَنوَنَها كاتبها بـ«ذكريات الوعاء الخاوي من العلم»، ونظرة في المقالة ترينا ما كان للكاتب على الأزهر من حقد دفين، فالمقالة تتكلم عن أخلاق أقران الكاتب المنحطة عندما درس هو وأقرانه في الأزهر، وعن القصور الذي وجده فيه، بل وعن شيء يستنفر ذو المروءة الصادقة والذوق السليم منه، ويبدي لنا ما لهم -إن شئت فقل: ما له- من الشهوة الجنسية الجامحة وانتكاس في الذوق البشري مع أنهم يدرسون في الأزهر.
وبدون حياء يقول: «كانت كارثة إذا عبرت فتاة مصادفة داخل الجامعة حتى لو كانت منتقبة، فالطلاب يجردونها بأعينهم من ملابسها، بل إنهم ذات مرة قاموا بمضايقة طالب إندونيسي كان لديه شعر طويل مسترسل وكان يسير بميوعة قليلا، وإذا بالشباب يعاكسونه ويطاردونه كأنه فتاة».
والآن نتساءل: لمَ لم يعنونها بـ«ذكريات طلبة الوعاء الخاوين من العلم»؟! فإن هذا العنوان لأنسب وأليق بها، ذلك أن الأزهر -كمؤسسة من المؤسسات التعليمية- له ميزته وطبيعته، ومن حقه أن يقرر موادا تلائم رسالته السامية من المحافظة على القديم الصالح، والأخذ بالجديد الأصلح – إن صح هذا التعبير، وأنت إن لم تجد فيه شيئا يغريك، فليس صحيحا في الطبع اتهامه بأنه وعاء خاو من العلم، لأن الخاوي من العلم هؤلاء الطلبة المتحجرة عقولهم المتجمدة قلوبهم.
ولستُ بعيدا عن الصواب إن أقطع بأن أية مؤسسة تعليمية -مهما يكن كمالها ووفور الأشياء المقومة لتخريج ذوي الكفاءة الناجمة في تخصصهم- لا تثير من شيء فيمن يتحجر عقله ويتجمد قلبه. وعلى ذلك فمن الشلل أن تلتحق بمؤسسة تعليمية لا تتفق ورغبتك، ثم من الجهل أن تمسك العداوة على تلك المؤسسة في قلبك وتتربص لفرصتها. وقديما قال الشاعر:
الحقد داء دفين ليس يحملها ** إلا جهول مليء النفس بالعلل
ما لي وللحقد يشقيني وأحمله ** إني إذن لغبي فاقد الحيل
سلامة الصدر أهنَا لي وأرحبُ لي ** ومركب المجد أحلى لي من الزلل
ثم هناك سيدة تزعم أنها تعمل في جامعة الأزهر فتقول: «فقد أحسست بأنني بدأت أتنفس حينما تخرجت فيها (أي: جامعة الأزهر) قبل عشر سنوات، ورجعت لأحبس أنفاسي مرة أخرى، وأقدم قدما وأؤخر أخرى قبل أن أعود إليها الآن -لأسباب لها علاقة بالحياة أكثر من علاقتها برغبتي في العمل في الجامعة- حابسة الأنفاس».
ومن مقالتها ترى أنها ممن غلب على أنفسهم النظرة المادية، فالأزهر -يا سيدتي- ليس مكانا تطلبين منه ثروة موفورة لتعيشي سعيدة باسمة، كلا.. إنه مربى يُربَّى فيه رجال -مهما يكن قصورهم المادي- مخلصون للدين والأمة والوطن، ينحني لهم وجوه الملوك والرؤساء، فأخبريني يا سيدتي هل هناك رجل من رجال الدولة بَجّله ملك انجلترا كما بجل ملك جورج الخامس الإمام الشيخ مصطفى المراغي؟!
وهل هناك أحد يفيض عليه احترام الرؤساء والشعوب في العالم له كما كان لشيوخ الأزهر؟! فإن كنتِ على شك فيما قلت، فاقرئي سيرة حياة الإمام الدكتور عبد الحليم محمود تجدي جموعا محتشدة هرعت لاستقبال الإمام في الهند وباكستان وماليزيا والمغرب وغيرها من البلدان، وكذلك عندما استقبل جمع غفير من الناس الإمام جاد الحق في جاكرتا.
إلا أني -وأنا طالب وافد- لا أستطيع الإنكار عندما تقولين: «فنظرة المجتمع (المصري) دائما لطالب الأزهر كانت تتمحور في أنه الطالب الفقير ماديا وعلميا». نعم، لقد أحسست بما قلت عندما أتعامل مع المصريين واعترفت به، لكن لتعلمي -مهما تكن نظرة المجتمع- أننا معشر الوافدين نعتبر الأزهر قلب هذا البلد، له مكانته في قلوب الأمة الإسلامية الناطقة بغير العربية، فلولاه لما عَرفتْ مصرَ كما هي حاليا، ولما وجدت مصرُ مكانتها عند الدول العربية -بل عند العالم- فيما تتعلق بالإسلام من علوم وحضارة.
ولتعلمي يا سيدتي أن دول جنوب شرق آسيا حاليا تزدهر مسايرةً فخامةَ الدول الغربية من حيث العلوم والبناء والصناعة والاقتصاد، وأن أحوال سكانها الراقية تتأبى عن التذلل لعطاء العرب المادي، كلا.. إنما هم يحتاجون إلى العطاء الروحي والتربية الإسلامية، فما أحوجهم إلى من يعلمهم الإسلام كما كان للعرب في عصر الرسالة! وما أحوجهم إلى من يفهمهم القرآن والسنة فيستنيرون بهداهما! وما أحوجهم إلى من يرد إليهم إيمانهم بهذا الدين الذي -كما قيل- يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يأخذونه بالمعرفة!
إنه الأزهر يا سيدتي، إنه الأزهر وحده الكفيل بهذه الأعباء الثقال، فهو مقصد كل من يريد الإسلام النقي والعربية الأصيلة، ولهذا تدفقت نحوه جمهرة الطلبة من كل بقاع العالم، بغض النظر عن كل أنواع القصور فيه، فمهلا يا سيدتي! مهلا في الأزهر!
وبعد، فهذا ما وفقني الله تعالى عليه في توفية حق الأزهر عليّ، عندما يحاول بعض الناس الاستخاف والسخرية به، وكيف لا فقد أنعم الله عليّ نعمة التعلم بالأزهر الشريف، وكفاني شرفا أن أحب الأزهر حبا جما، وإن لم أكن على نهج الأزاهرة الشرفاء علما وثقافة وسلوكا، واسمح لي في هذا الختام أن أقول هذه الأبيات المتواضعة:
ويبقى أزهرٌ مهما يقولوا ** حصينا حافظا نورا حليما
لقد ملأَ الدُّنَى بالسمْح فاشهد ** فلولاه لظل الدين ضيما
لئن صمتوا على الجهد الفريد ** فما زال العطا دفْقا عظيما

مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 20 من يناير 2014م



([1]) طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر الشريف. 

0 comments:

إرسال تعليق