يا سيدي

بقلم الطالب: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
يا سيدي، إني أخاف أن تتبادر في ذهنك كراهتك على تلميذك هذا،  فيملأ نظرَك إليّ فيضٌ من الكراهة، وتستبعدني استبعادا ما يعوقني عن حلاوة ملازمتك، وتقعدني عن قطف ثمار العلم والحكمة من ثغرك البراق.
فكم كنت يا سيدي رافعا يدي إلى السماء وهاتفا ربي في ضراعة: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها». وما دعوت بهذا الدعاء إلا لشدة خوفي من أن يذهب عني سحاب بركة العلم، وانهار في نفسي سمو أدب الطالب مع أستاذه.
يا سيدي، إليك أرسلَ تلميذُك هذا اعتذارَه البالغ لقِصَر فهمه، وضَحْل تفكيره، وقلة أدبه؛ فقد سألك في إحدى مجالسك الرحبة عن شيء تافه فقطعتَه أثناء إلقائه السؤال بكلمة «خطأ»، لكن هذا القليل الأدب أصرّ على استكمال سؤاله فقطعتَه بنفس الكلمة مرة ثانية ثم مرة ثالثة، إلى أن ختمت تعليقك بكلمتك الحكيمة: «ولكن أنتم قوم مستعجلون».
ما انتهتْ -يا سيدي- قلةُ أدب تلميذك هذا، فتمتم في طريقه إلى سكنه:
«لماذا نظر هذا الأستاذ إلى طلابه نظرة المجادل إلى خصومه، فباشر كل وسائل تمكّنه في إسكات من يكلمه أو يسأله، وحاول إبراز هيبة علمه وسعة ثقافته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فأقنع هو غيرَه ولا يقتنع السائلون، بل ولا يطمئنون إلى ما ألقاها من دروس؟».
«لماذا لا ينظر هذ الأستاذ إلى تلامذته نظرة الوالد إلى أولاده، الذي سلك طريقا يلتمس فيه كل أسباب النبوغ لأولاده، وأنشأ في نفوس أولاده شخصية ذات ثقة بأنفسهم، وغرس لأولاده مبدأ الشك، فلا يصدقون شيئا ما لا ينبني على دليل، ولا يثير الاقتناع في نفوسهم، ودرّب أولاده على التفكير العميق وحب الاستطلاع حتى يكون لديهم عقل عَقُول ولسان سَؤُول؟».
«رباه.. ما الشيء الذي فعلته أنا لأستاذي حتى لا يريد من لساني إلا الانعقاد عن الكلام؟ بيد أن نفسي ملتهبة عطشا إلى إجابته عن استفساري ببعض ما غمض عندي فيما ألقاها من دروس، وأنى يكون لنفسي الاطمئنان -يا سيدي- إذا ودعتَها بدون إجابة وقطعتني في سؤالي؟».
«كم كنت متمنيا يا سيدي أن تأتيني بالإجابة الجامعة المانعة؛ ما هي بعيدة عن سطح في التحليل، وقِصر في النظر أتم البعد؛ وأنا بإجابتك بعد ذلك مقتنع حيث لا تخطر على بالي فكرة الاستبانة، ولا ينطق لساني طالبا الاستفهام».
«يا سيدي لقد فقدتُ -بسبب إهمالك شأني وسؤالي- ثقتي بنفسي فشككت في كوني إنسانا طالبا، وقد تجمع في نفسي حاليا الأسى والحسر، لعلي في طريقي إلى سكني هذا أجد شيئا يدفع إليّ قليلا من السرور، أو يذهب عني الحزن».
«ها أنا ذا يا سيدي راجعٌ إلى سكني دامع العين.. إني في محاولة دؤوب لإخفاء هذه الدموع الساقطة باستحضار الذكريات الماضية الزاخرة، فمما يتبادر في ذهني أني أذكر كيف كنت أقيم حوارا مع أستاذي الدكتور زكي أبوسريع -حفظه الله- عندما درسنا مادة التفسير في الكلية، وكان فضيلته يشرح تفسير سورة مريم، وكان الكلام حينئذ عن عودة سيدنا عيسى عليه السلام إلى الدنيا كأحد عباد الله الصالحين، لا كرسول مرسل ولا نبي يبعث، فأخذتُ أسأل الدكتور كمنطلق حوارنا المثمر النافع: هل عودة سيدنا عيسى عليه السلام إلى الدنيا كعبد صالح تابع لشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا تخل بمكانته مع أنه من قبل كان نبيا ورسولا، فقد أثبت الله -كما أشار إليه المفسرون- أن هناك طبقات للإنسان من حيث مكانته عند الله في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، وذلك نظرا إلى أن العبرة بالنهاية؟ وإني لأعرف حقا كيف كان فضيلته يلوح لنا سعادة باسمة، وتتجلى سعة صدره، وتنكشف رغبته الملحة في أن يكون طالب العلم ذا طابع ناقد وبصر نافذ ووعي يقظ».
وبعد، فذلك يا سيدي مما تمتم به هذا القليل الأدب والقصير الفهم، عقب تفرغه من مجلسك في الأحد الماضي (29/9) بالجامع الأزهر الشريف. وما زال مظهر الأسى غالبا على تصرفاتي حينئذ، فالحياة مضتْ يابسة مكتئبة، والدنيا تضيقتْ عليّ فتركتْني فريدا في مشأمة الإهمال، وأصبحتُ حصاة منثورة في الطريق، فهل من اللائق بي بعد ذلك البقاء في مدينة البعوث؟ كلا! فقد أضحى وجودي في المدينة واجفا مضطربا.
إن عزمي اشتد على التخلي عن المدينة حينا من الوقت، وأعددت كل شيء ما أنا بحاجة إليه أثناء مكثي خارج المدينة، فقررت أن يكون «بيت الطلبة الإندونيسيين من نوسا تنجارا وبالي» مصيرا.. ومن حسن حظي أن رجع صاحب البيت الزميل أحمد سوجانا من الدراسة عقب وصولي ذلك البيت، وكان معه كتاب «موقف القرآن الكريم من العلماء» للأستاذ الدكتور السيد إسماعيل سليمان.
وقد بدأت حينئذ أسترسل في التفكير العميق حول ما كتمته من سوء الأدب معك يا سيدي، وما تمتم به ثغري من الكلمات السيئة الساقطة التي يأباها طالب الحق أشد الإباء. وقد دفعني شعور قلة أدبي معك يا سيدي إلى شيء من الذهول ما يحجبني من إبصار نور ربي عز وجل، ثم أخذت أتصفح الكتاب صفحة فصفحة حتى وصلت إلى مبحث آداب المتعلم مع المعلم..
وما أن انتهيت من قراءة هذا المبحث إلا ووجدت نفسي واجمة، وإذا بدموعي تترعرع، وكيف لا، فقد أعاد -بفضل الله تعالى- هذا الكتاب رشدي بعد أن غاب عني حينا من الزمان، ولا أبالغ إن أقطع بأن كل سطر في هذا المبحث القيم اضطر هذا التلميذ الذليل إلى الاعتراف بفضلك يا سيدي، وأثبت غلطَ هذ التلميذ الحقير وسوءَ خلقه وضحلَ تفكيره.
يا سيدي، ها أنا ذا أعتذر إليك بالمعروف، فلا تحرمني شرف صحبتك ومدارسة علمك، وما أحسنني إن سلكت مسلك سيدنا موسى عليه السلام في أدبه مع أستاذه، فقد إعتذر إليه فيما بدر منه من اعتراض عليه بقوله: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾.ولله در الإمام النووي -رحمه الله- عندما يقول: «من لم يصبر على ذل التلعم، بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الأخرة والدنيا». وقال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «ذللت طالبا فعززت مطلوبا».
والله أعلم! []
بيت الطلبة الإندونيسيين من نوسا تنجارا وبالي، 3 من أكتوبر 2013م

0 comments:

إرسال تعليق