صبرا يا صديقي

(إلى صديقي: الأستاذ علي مصطفى لون النيجيري)
بقلم الطالب: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
صبرا يا صديقي! فإن ذهاب والدك إلى جوار ربه لخير دليل على حبه تعالى إياه، وكيف لا، فقد فاز أبوك بقربه تبارك اسمه عجِلًا، بيد أن معظم الناس في غفلة داجية، لا يعون أن مكثهم في هذه الدار الدنيئة لا يزيدهم إلا بعدا عن نور ربهم لما يعتادون من ارتكابهم الخطايا والمعاصي.
أبشرْ يا صديقي! فها هو ذا أبوك طليق من محبس هذه الدار الضيقة، خارج منها سعيدا باسما.. فقد وصفتَ أنتَ هذه الدار الشائهة بقولك:
هــذه الــــدارُ مـا لــهــا مــن قـــــــــرارِ ** ما على وجهها سوى المعضلات
فــاطـرحـنْهـــا وخـــذ بـــدار مــقـــــامِ ** تـــلــــقَ فــــيــهـا بــــــأعـظـم الـبُشــريات
فأخبرني أيها الصديق! هل من اللائق به أن تكون هذه الدار-فيما بعد- مقاما صالحا ليطيل فيه مكثه بعد أن أدى أمانته البشرية على خير ما يكون الأداء؛ كعبد صالح لله تعالى، وراعٍ تقي لرعيته، وأب مربٍّ لأولاده؟!
فقد أوجعني خبر وفاته، وذلك بعد أن عرفتُ أنك حديث العهد بلقائه، وما لبثتَ أنتَ في المدينة إلا أياما قلائل منذ مجيئك من بلدك، واشتد الوجع يا صديقي عندما قمت بزيارتك وأنت دامع العين، وكنت أستطيع وقتئذ أن أستدرك مآثر الأحزان في وجهك، وتحاول أنت قدر طاقتك أن تبدي لي أنا ومن معي الاطمئنان والسكون، وتبرز لنا اعتقادك الجازم بقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾، فأنت باعتقادك هذا راض بمقدوره عز وجل، مستريح البال، مطمئن النفس.
يا صديقي، أما تعلم أنه كفى أباك -رحمه الله- شرفا وفخرا، أن تَخَرَّجَ في مرباه شابٌ امتاز عن أقرانه بعمق علمه وسعة ثقافته، تخرج في مرباه شابٌ فاق أمثاله بالشاعرية الناجمة والشخصية البارزة، تخرج في مرباه شابٌ عَلَا نظراءه بالاسترسال في التفكير العميق وحب الاستطلاع، تخرج في مرباه شابٌ نبّاغ طمّاح امتلك كل أسباب السمو والرقي في التصرفات العلمية من عقل عَقُول ولسان سَؤُوْل.
إذن، فهل تليق دناءة هذه الحياة الدنيا به بعد أن قام بواجباته فيها أحسن القيام؟ وهل من اللائق به حاليا إلا أن تُعطَى حقوقه من البشريات التي وعد الله بها فيمرح ناجيا؟ فها هو ذا أبوك الذي مكّن نفسه في ضمن هؤلاء الشرفاء الكبار الذين لا يريدون إلا رؤية رب الأرض والسماوات.. وأنى يتحقق التمكين إذا لم يكن حرا طليقا من هذا المحبس الضيق؟ وهل علينا إلا الرضا بهذا المقدور المحتوم، والسماح برحله إلى ربه..
صبرا يا صديقي! إذا لم يكن ما سبق كافيا ليخمد الأحزان ويمحو الدموع، فلنتصفح الصفحات الماضية التي سطر عليها أقلامُنا من تجاربنا الخصبة ودراساتنا الممتعة.. يا صديقي، ألستَ أنتَ قائل هذه الأبيات:
يا أهلَ مصـر إذا نزلــتُ بــأرضـكـــم * ســــأزفُّ كـلَّ مــــودَّتـــــي وحَـــنـــــــانــــي
لـمّـــــا حلــــلتُ ديــــارَكـــم ووطــئتُــهــــا * ألــفيــتُ هـــذاالقلبَ فـــي اطـمئنـان
ووجـدتُ فيها كــلَّ مـا يــدعـو إلــى * فرَحٍ ويُـــخـــمـــــد جــمــــرةَ الأحـــــزان
إذن، فما بال الدموع لم تنته من سقوطها مع أن صاحب العين قد وطأ هذه الأرض المباركة، ووجد فيها ما يدفع إلى نفسه فيضا من السرور؟ وما بال الأحزان الكامدة والذكريات المؤلمة تُصِرّان على إطالة مكثهما في النفس مع أن مصر العزيزة قد محتْ سبيلهما إليها، وشغّلتْها بالطلب والتثقيف منذ حين؟
إذا كان مقالك فيما سبق تجسيدا مخطوطا أو ملفوظا لدخائل نفسك وبنات صدرك، أفلم يكْفِكَ -يا صديقي- مقالُك هذا حصنا حصينا لكل ما تعرّضّتَ له من هجوم الكمد والأسى؟! فأنت بحلولك هذا البلد ووطئك أرضه، في اطمئنان يدوم وفرح يطول.. وكيف لا يتحقق الاطمئنان والفرح فيه، فقد قال عز وجل عنه على لسان نبيه يوسف عليه السلام: ﴿ادْخُلُوْا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِيْنَ﴾.
وبعد، فإني أكبر الظن أن ما قدمتُ لك من قبل لن يكون قادرا على أن يورّي مآثر فجْعكَ عن الأنظار. وإني لأذكر كيف كان الفجع يشتد على سيدنا يعقوب عليه السلام في ابنه سيدنا يوسف عليه السلام، حتى غلبه على الصبر الجميل فقال: ﴿يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ﴾. ولم تكْفِه غلبة الفجع عليه، فأصرّ هو على تورية حزنه الكامد، فتجلّدَ في سبيلها حتى أصابه ما أصابه كما في قوله تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.
وما أنت -يا صديقي- ببعيد عما أصاب سيدنا يعقوب عليه السلام من فقد أحب الناس إليه.. فها هو ذا أبوك الذي رباك بتربية أفضل ما تكون التربية، ودربك على النشاط في كسب العلم وتحقيق العمل، وغرس في نفسك شخصية محترمة ذات ثقة بالنفس، وسلك طريقا التمس فيه كل أسباب نبوغك. وها أنت ذا بفضل الله تعالى -عن طريق أبيك- تعلو أقرانك، وتفوق أمثالك بكل ما يمتاز به أهل الصفوة من خلق الله تعالى. فهل من المعقول أن يصبح مَنْ رجع إليه الفضل الأكبر في بناء شخصيتك نسيا منسيا؟ هيهات!
يا صديقي، إني أعتقد أني لم أستطع أن أجاريك في حزنك، وفي نظري أنه ما أحد منا قادرا على مسايرة المفجوع جملة وتفصيلا، الذي يختص بإحساسه أنه -كما قال الأستاذ سيد قطب- «منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب حوله ولا تجاوبه»، فينعزل عن غوغاء الحياة، ليستحضر ما فاته المفجوع مما ينبغي له أن يؤدى من الواجبات، أو يدرك من المكانة أيام المفجوع فيه؛ فيزداد المفجوع ندما وحزنا..
لكن ذلك الإحساس ليس مبررا للمفجوع في استرسال الأحزان واستدام الأكباد، لأن المؤمن الموصول قلبه بالله، المتجه مسيره إلى الله، لا ييأس من فرج الله ورحمته أبدا، ولو أحاطت به الكروب، واشتدت عليه المصائب، لأنه ﴿لَايَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّاالْقَوْمُ الْكَافِرُون﴾.
وفي هذه المناسبة، أذكر أن الأديب البرازيلي باولو كويلو كان يقول: «عندما يرحل أحد من الناس، فذلك لأن أحدا آخر على وشك وصول». وعسى -يا صديقي- أن تكون ممن على وشك الوصول، بعد ذهاب الشرفاء الكبار -منهم أبوك- إلى جوار ربهم، الذي سيقود العباد نحو مستقبل أفضل. آمين..
وبعد، فذلك ما استطعت يا صديقي أن أقدم لك من العزاء، ولست هنا بمدرس يدرس، ولا بمرشد يرشد، فأنت أحق بهما وأليق.. لكن ما هذا إلا محاولة خفيفة لاستحقاق الشخصية المسلمة من النصح للإسلام والمسلمين، وتذكير بأن الله تعالى لم يخلق الموت والحياة إلا ليبلونا أينا أحسن عملا، وأنه ﴿مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ﴾.[]

بيت الطلبة الإندونيسيين من نوسا تنجارا وبالي، 17 من أكتوبر 2013م


0 comments:

إرسال تعليق