خيار الشرط: دراسة مقارنة بين الشافعية والحنفية



بقلم الطالب: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
تحت إشراف: الأستاذ الدكتور خالد عبد العزيز
جامعة الأزهر الشريف
كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة
العام الدراسي 2012-2013
المقدمة
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وشفيعنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فالبيع فرع من الفروع الفقهية الهامة، إذ لا يمكن أن يستغني الناس عنه في معاملاتهم اليومية، والكلام عنه -كما نرى- طويل متشعب؛ وعلى هذا، حاول الباحث في هذا الصدد أن يبحث مسألة واحدة من مسائل البيع، ألا وهو الخيار.
فمسألة الخيار -خاصة خيار الشرط- من أهم المسائل التي تلفت أنظار فقهاءنا قديما وحديثا، وتعددت -على ما يظهر- فيها الآراء؛ ومن ثم، نرى أننا في أمس حاجة إلى إيضاح هذه المسألة، محاوِلًا مقارنة آراء بين الشافعية والحنفية، لنتحقق من الرأي الذي نستحسنه ونطمئن إليه.
هذا المقال يهدف إلى تجلية تلك الأمور، وقد اخترت مبحث خيار الشرط ممثلا عن مسائل الخيار العريضة، لأهميتها مما عدا أنواع الخيار الأخرى، وسيدور المقال حول ثلاثة مباحث أساسية، المبحث الأول: مفهوم الخيار، ثم ثنيت الكلام بالمبحث الثاني وهو أقسام الخيار، أما المبحث الثالث فهو خيار الشرط والآراء الموجودة فيه من الشافعية والحنفية مع مقارنة هذه الآراء، وفي الخاتمة أوردت موجز النتائج.
والله الموفق، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
البحث
المبحث الأول: مفهوم الخيار
كلمة «الخيار» اسم المصدر من كلمة «الاختيار»([1])، ومعنى الاختيار: الانتقاء والاصطفاء؛ والخيار معناه طلب خير الأمرين، ويقال: هو بالخيار أي يختار ما يشاء»([2]).
ذلك تعريف الخيار لغة، والخيار اصطلاحا له تعريفات عديدة تبعا لأقسامها، غير أنّها في الغالب تناولت هذا اللّفظ مقروناً بلفظ آخر لأنواع الخيارات دون أن يقصد بالتّعريف «الخيار» عموماً، على أنّه يمكن استخلاص تعريف للخيار من حيث هو من خلال تعاريف أنواع الخيار بأن يقال: «هو حقّ العاقد في فسخ العقد أو إمضائه ، لظهور مسوّغ شرعيّ أو بمقتضى اتّفاق عقديّ»([3]).
ونرى أن من المستحسن أن نسوق لك مثالا لمفهوم الخيار عند الفقهاء القدماء والمحدثين؛ قال الخطيب الشربيني من القدماء: « الخيار طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه، والأصل في البيع اللزوم، لأن المقصود منه نقل الملك، وقضية الملك التصرف، وكلاهما فرع اللزوم، إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقا بالمتعاقدين»([4]).
وقال الدكتور وهبة الزحيلي من المحدثين المحققين مبينا مفهوم الخيار تفصيلا: «ومعنى الخيار أن يكون للمتعاقد الخيار بين إمضاء العقد وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو عيب،  أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين، علما بأن الأصل في البيع اللزوم، لأن القصد منه نقل الملك، إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقا بالمتعقدين»([5]).
نحن -على ما قدمنا لك من تعريفي الخطيب الشربيني والدكتور الزحيلي- نرى وجود وجه الشبه بين التعريفين، إلا أن الدكتور الزحيلي جاء بالتعريف مفصلا، بل اقتبس بعض كلمات الخطيب من تعريفه للخيار؛ ومن ثم نستطيع أن نستنتج -ولو إلى حد ما- أن الخيار لم يتغير مفهومه بتغير العصور، ولم تتطور حدوده على مرور الأزمان.
المبحث الثاني: أقسام الخيار
وبعد، فقد رأيت وجود اتفاق -تقريبا- بين المتقدمين والمحدثين في مفهوم الخيار، إلا أن الفقهاء مختلفون في عدد الخيار، فأحصى الحنفية عدد الخيار، فبلغ عندهم سبعة عشر خيارا([6])، وهي خيار الشرط، والرؤية، والعيب، والوصف، والنقد، والتعيين، والغبن مع التغرير، وخيار الكمية،  والاستحقاق، والتغرير الفعلي،  وكشف الحال، وخيانة المرابحة والتولية، وتفريق الصفقة بهلاك بعض المبيع، وإجازة عقد الفضولي، وتعلق حق الغير بالمبيع بسبب كونه مستأجرا  أو مرهونا.
وعند الشافعية نوعان من الخيار كما قال الخطيب القزويني وابن شهاب الدين الرملي([7])، الأول: خيار التروّي أو التشهي وهو ما يتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر المبيع، وسببه المجلس والشرط؛ والثاني: خيار النقيصة سببه خلف لفظي أو تغرير فعلي أو قضاء عرفي، فمنه خيار العيب والتصرية والحلف وتلقي الكبان ونحو ذلك.
وبناء على ذلك، الخيار المشروع عند الشافعية -كما قال الدكتور الزحيلي- ستة عشر([8])، وهي خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب عند الاطلاع عليه، وخيار تلقي الركبان، وخيار تفرق الصفقة بعد  العقد، وخيار فقد الوصف المشروط في العقد، والخيار لجهل الغب مع القدرة على انتزاع المعقود عليه من الغاصب دفعا للضرر، ولطريان العجز عن انتزاعه من الغاصب مع العلم بالغصب، والخيار لجهل كون المبيع مكترى أو مزروعا، والخيار لامتناع من الوفاء بالشرط الصحيح، والخيار للتحلف فيما إذا اتفقا على صحة العقد واختلف في كيفيته، والخيار للبائع لظهور زيادة الثمن في المرابحة، والخيار للمشتري لاختلاط الثمرة المبيعة بالمتجددة قبل التخلية إن لم يهبه البائع ما تجدد، والخيار للعجز عن الثمن بأن عجز عنه المشتري والمبيع باق عنده، والخيار لتغير صفة ما رآه قبل العقد وإن لم يكن عيبا، والخيار لتعيب الثمرة بترك البائع السقي بعد التخلية.
ونرى أن تقسيم الفقهاء القدماء للخيار -مع دقة ملاحظتهم- لم يكن مرتكزا في موضوع ما، ونحن في هذا التقسيم نستحسن تقسيم المتأخرين، إذ فصلوه من كل زواياه، حتى تظهر لنا ماهية الخيار وتترسم في أذهاننا صورته وخريطته، ولنسق لك تقسيم الفقهاء المتأخرون للتمثيل على ما نقول.
قسم المتأخرون([9]) الخيار عموما إلى ثلاثة أقسام، وتندرج تحت كل من هذه الأقسام فروع كثيرة.
الأول: التّقسيم بحسب طبيعة الخيار؛ ينقسم الخيار بحسب طبيعته إلى حكميّ وإراديّ. فالحكميّ ما ثبت بمجرّد حكم الشّارع فينشأ الخيار عند وجود السّبب الشّرعيّ وتحقّق الشّرائط المطلوبة، فهذه الخيارات لا تتوقّف على اتّفاق أو اشتراط لقيامها، بل تنشأ لمجرّد وقوع سببها الّذي ربط قيامها به، ومثاله: خيار العيب. أمّا الإراديّ فهو الّذي ينشأ عن إرادة العاقد. والخيارات الحكميّة تستغرق معظم الخيارات ، بل هي كلّها ما عدا الخيارات الإراديّة الثّلاثة: خيار الشّرط، وخيار النّقد، وخيار التّعيين. فما وراء هذه الخيارات فإنّه حكميّ المنشأ أثبته الشّارع رعايةً لمصلحة العاقد المحتاج إليه دون أن يسعى الإنسان للحصول عليه.
الثاني: التّقسيم بحسب غاية الخيار؛ يقوم هذا التّقسيم للخيارات على النّظر إليها من حيث الغاية، هل هي التّروّي وجلب المصلحة للعاقد، أو تكملة النّقص ودرء الضّرر عنه؟ يقول الغزاليّ: ينقسم الخيار إلى خيار التّروّي وإلى خيار النّقيصة. وخيار التّروّي: ما لا يتوقّف على فوات وصف، وله سببان: المجلس والشّرط. وأمّا خيار النّقيصة وهو ما يثبت بفوات أمر مظنون نشأ الظّنّ فيه من التزام شرعيّ، أو قضاء عرفيّ، أو تغرير فعليّ، ثمّ فرّع الغزاليّ من خيار النّقيصة عدّة خيارات؛ ونحوه للمالكيّة فقد جرى خليل على البدء بخيار التّروّي ثمّ أتبعه بخيار النّقيصة.
الثالث: التّقسيم بحسب موضوع الخيار؛ وهي ما يأتي:
أولاً: خيارات التّروّي.
أ-
خيار المجلس
ب-
خيار الرّجوع
ج-
خيار القبول
د-
خيار الشّرط
ثانيا: خيارات النّقيصة.
أ-
خيار العيب
ب-
خيار الاستحقاق
ج-
خيار تفرّق الصّفقة
د-
خيار الهلاك الجزئيّ
ثالثا: خيارات خيارات الجهالة.
أ-
خيار الرّؤية
ب-
خيار الكمّيّة
ج-
خيار كشف الحال
د-
خيار التّعيين
رابعا: خيارات التّغرير.
أ-
خيار التّدليس الفعليّ (بالتّصرية ونحوها) والتّغرير القوليّ
ب-
خيار النّجش
ج-
خيار تلقّي الرّكبان
خامساً: خيارات الغبن.
أ-
خيار المسترسل
ب-
خيار غبن القاصر وشبهه
سادساً: خيارات الأمانة:
أ-
خيار المرابحة
ب-
خيار التّولية
ج-
خيار التّشريك
د-
خيار المواضعة
سابعا: خيارات الخلف.
أ-
خيار فوات الوصف المرغوب
ب-
خيار فوات الشّرط
ج-
خيار اختلاف المقدار
ثامنا: خيارات اختلال التنفيذ، وهي هي التأخير
تاسعا: خيارات امتناع التّسليم:
أ-
خيار النّقد
ب-
خيار تعذّر التّسليم
ج-
خيار تسارع الفساد
د-
خيار التّفليس
المبحث الثالث: خيار الشرط بين الشافعية والحنفية
وبعد، فبعد أن انتهينا من مفهوم الخيار وتقسيمه، نشرع مباشرة في الكلام عن مبحثنا الأساسي وهو خيار الشرط؛ فهذا الخيار -أعني خيار الشرط- من أهم المسائل المتعلقة بالخيار عموما، فقد أطال العلماء القدماء المحققون الكلام عنه على شتى مذاهبهم الفقهية، ففرعوا المسائل العديدة من هذا المبحث، ولم تقتصر هذه الإطالة عند الأقدمين فحسب، بل نرى الفقهاء المحدثين سالكين مسلك من قبلهم من الفقهاء جملة وتفصيلا.
فالتي تهمنا في هذا المبحث محاولة المقارنة بين الشافعية والحنفية من خلال بيان معنى خيار الشرط، وآراء الفقهاء في مشروعيته، ومدة خيار الشرط وحكم العقد فيها، وحكمة هذا الخيار.
1.     معنى خيار الشرط
الشرط سبب والخيار مسبب، فهو -كما قال النسفي وابن عابدين- من إضافة الشيء إلى سببه([10])، على حقيقة الإضافة. ومن الفقهاء من يعبر عن ذلك بــ«شرط الخيار» كالنووي والرملي من الشافعية، وصاحب المختصر من المالكية، وصاحب المحيط البرهاني من الحنفية([11]).
وخيار الشرط في الاصطلاح فقد قال ابن عابدين الحنفي: «إنّ خيار الشّرط مركّب إضافيّ صار علماً في اصطلاح الفقهاء على ما يثبت «بالاشتراط» لأحد المتعاقدين من الاختيار بين الإمضاء والفسخ»([12]).
وقال الدكتور علي مرعي: «ويقصد بخيار الشرط أو شرط الخيار أن يشرط العاقدان أو أحدهما مدة يتروي فيها بين إمضاء العقد أو فسخه في أثناء هذه المدة»([13]).
وقال الأستاذ عبد الرحمن الجزيري مبينا مفهوم خيار الشرط تفصيلا: «هو عبارة عمن كون العاقد يبيع السعلة أو يشتريها بشرط أن يكون له الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، فمعنى قولهم «خيار الشرط»: الخيار الثابت بالشرط، فيصح للمتبايعين أن يشترطا الخيار كما يصح لأحدهم، وكذلك يصح أن يشترطاه لأجنبي عنهما كأن يقول: اشتريت منك هذه السعلة على أن يكون الخيار لفلان»([14]).
هذه تعاريف الفقهاء والباحثين لخيار الشرط، وقدمنا لك تعريف الحنفية، لكنا -مع الأسف- لم نعثر على تعريف صريح لخيار الشرط عند الشافعية في بعض كتبهم المعتبرة أمثال «المجموع»، و«مغني المحتاج»، و«نهاية المحتاج»، و«الحاوي الكبير»؛ إلا أننا وجدنا الاتفاق التام في مفهوم خيار الشرط بين الشافعية والحنفية عندما شرع الشافعية في الكلام عنه من خلال مؤلفاتهم؛ وعلى هذا، نستنتج مما سبق أن لا خلاف بين الشافعية والحنفية في مفهوم خيار الشرط.   
2.     مشروعية خيار الشرط وزمن العمل به
من خلال الكتب الفقهية المعتبرة -شافعية كانت أو حنفية- التي عثرنا عليها، نرى الاتفاق بين الشافعية والحنفية في ثبت مشروعية خيار الشرط، ولنسق لك بعض أقوال العلماء الممثلة للشافعة والحنفية للتمثيل على ما نقول.
قال النووي: «يصح شرط الخيار في البيع بالإجماع إذا كانت مدته معلومة»([15]).
وقال النسفي: «وهو (أي خيار الشرط) ثابت بالنص على غير القياس»([16]).
وخيار الشرط لا يعمل به إلا إذا شرطه العاقدان أو أحدهما كما أسلفنا، لأنه لا يثبت إلا بالشرط، ولا يخلو حال من شرط الخيار إما أن يشرطه قبل العقد، أو في صلبه، أو بعده.
وقد ذكر الدكتور علي مرعي([17]) أن الفقهاء قد اتفقوا على أن خيار الشرط لا يثبت قبل العقد لعدم وجود ما يقتضيه، كما أنهم اتفقوا بمشروعية الخيار على أنه يثبت لمن شرطه إذا نص على شرطه في صلب العقد، واختلفوا فيما إذا وقع العقد على البت، هل يجوز للعاقدين أو أحدهما أن يلحق بالعقد خيار الشرط بعد ذلك؟
فذهب الشافعية إلى أنه إذا وقع العقد على البت لم يجز للعاقد أن يشرط خيارا بعد هذا، واستدلوا بأن العقد قد انعقد صحيحا لازما بحكم الشرع، فلا يصير جائزا بعد ذلك بقول العاقدين أو أحدهما لما في هذا من التنافي.
وذهب الحنفية إلى جوازه بشرط أن ينقد المشتري الثمن للبائع عندهم، واستدلوا بقياس ما بعد العقد على وقت العقد، فكما يجوز للعاقد شرط الخيار في العقد يجوز له هذا بعد العقد، لأن حقيقة الشرط في الحالين لا تختلف.
ويناقش استدلال الحنفية بأنه قياس مع الفرق، لأن العقد وقت التعاقد غير لازم، فجاز فيه شرط الخيار بخلاف ما بعد العقد، فإنه قد صار لازما فلا ينقلب جائزا.
وبهذا، ثبت مدى الاتفاق بين الشافعية والحنفية على مشروعية خيار الشرط وزمن العمل به، إلا أن الحنفية خالفوا الشافعية في إعمال خيار الشرط بعد العقد، فقالوا بجوزه، غير أن الشافعية قالوا بعدم جوازه، وثبت رجاحة رأي الشافعية فيه بعد مناقشة أدلة كل منهم.   
3.     مدة خيار الشرط وحكم العقد فيها
في مدة خيار الشرط، رأينا اتفاقا تاما بين الشافعية والحنفية على أن مدته ثلاثة أيام، عملا بحديث أنس -رضي الله عنه- أن رجلا اشترى من رجل بعيرا واشترط الخيار أربعة أيام، فأبطل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيع، وقال: «الخيار ثلاثة أيام»([18]). ولنسق لك مثالا لبعض أقوال العلماء الممثلة للشافعة والحنفية.
قال النووي: «لا يجوز لنا أكثر من ثلاثة أيام»([19]). وزاد في موضع آخر: «قال أصحابنا: فإن زاد على ثلاثة أيام ولو لحظة بطل البيع»([20]).
وقال ابن عابدين: «اعلم أن الخيار في العقود كلها لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام»([21]).
ومع اتفاق صريح بين الشافعية والحنفية في مدة خيار الشرط عموما، إلا أننا نجد اختلافا في حكم العقد الذي وقع في مدة خيار الشرط، فقال الحنفية بجوازه، غير أن الشافعية قالوا بعدم جوازه؛ ولهذا الاختلاف فقد أحسن ابن رشد ملاحظته فقال: «واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في ثالثة أيام زمن الخيار المطلق، فقال أبو حنيفة: إن وقع في الثلاثة الأيام جاز، وإن مضت الثلاثة فسد البيع؛ وقال الشافعي: بل هو فاسد على كل حال»([22]).  
4.     حكمة خيار الشرط
رأينا أن حكمة الخيار عموما وخيار الشرط خصوصا، ترجع إلى حكمته تعالى والهدف الأساسي لبعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾([23])؛ وبناء على ذلك، كانت الشريعة التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ميسورة سمحة معتدلة لا حرج فيها، ومتماشية مع الفطرة الإنسانية السليمة، إذ قال الله تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفًا، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِيْ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَاتَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّيْنُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُوْنَ﴾([24]).
ولما كان الخيار -خاصة خيار الشرط- من أهم القضايا المتعلقة بالبيع، كان للشريعة فيه دور في إبزار حكمته تعالى للناس من خلال الأحكام الصادرة منها، فقررت الشريعة المبادئ العامة للبيع، ويدخل تحته الخيار الذي نحن بصدده، وذلك لسبب من أنه ليس كل واحد يحسن البيع والشراء ونحوهما، وقد يكون العقد غير مشتمل على غبن وخديعة، ومع هذا تظهر رغبة العاقدين أو أحدهما في الرجوع عن العقد، ولكي لا يلزم المرء بعقد هو عليه نادم، منح الشارع للعاقد بموجب خيار الشرط، وفي خلال المدة المشروطة فرصة للتروي للحاجة إلى ذلك.
الخاتمة
أما بعد، فقد وصلنا إلى خاتمة هذا البحث، فالنظرة العامة إلى ما استعرضنا لك من مفهوم الخيار، وأقسامه، وخيار الشرط، ومحاولة المقارنة بين الشافعية والحنفية من خلال بيان معنى خيار الشرط، وآراء الفقهاء في مشروعيته، ومدة خيار الشرط وحكم العقد فيها، إلى حكمة هذا الخيار؛ تبدي لنا أننا لم نذكر إلا طوائف رئيسية لهذا المبحث، بيد أننا قد أهملنا طوائفه العديدة، مثل طرق إسقاط الخيار، وكيفية الفسخ والإجازة، وغيرها؛ مما يطول بنا القول لو قدمنا لك تفرعة العلماء المسائل في هذا المبحث، والاختلافات الموجودة بسبب هذه التفرعة.
وأَيًّا ما كان الأمر، فقد كان خيار الشرط من أهم المسائل المتعلقة بالخيار عموما، فقد أطال العلماء القدماء المحققون الكلام عنه على شتى مذاهبهم الفقهية، ففرعوا المسائل العديدة من هذا المبحث، ولم تقتصر هذه الإطالة عند الأقدمين فحسب، بل نرى الفقهاء المحدثين سالكين مسلك من قبلهم من الفقهاء جملة وتفصيلا.
وفي خاتمة هذا المقال، نوجز النتائج لخيار الشرط في نقاط تالية:
1.     لا خلاف بين الشافعية والحنفية في مفهوم خيار الشرط.  
2.     اتفق الشافعية والحنفية على مشروعية خيار الشرط وزمن العمل به، إلا أن الحنفية خالفوا الشافعية في إعمال خيار الشرط بعد العقد، فقالوا بجوزه، غير أن الشافعية قالوا بعدم جوازه، وثبت رجاحة رأي الشافعية فيه بعد مناقشة أدلة كل منهم.
3.     اتفاق الشافعية والحنفية في مدة خيار الشرط عموما (ثلاثة أيام)، لكنا نجد اختلافا في حكم العقد الذي وقع في مدة خيار الشرط، فقال الحنفية بجوازه، غير أن الشافعية قالوا بعدم جوازه.
ومع اعتقادي أن ما قدمت لك في هذا البحث هو مجرد تدريب نفسي، في سلك مسلك فحول الباحثين، حتى أكون على نهجهم وإن لم أكن منهم، وهذه هي محاولتي البسيطة للبحث عن الحقيقة، فإن أصبت فحمدا لله، وإن أخطأت فحسبي أني قاصد الحق، ﴿إِنْ أُرِيْدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيْقِيْ إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيْبُ﴾([25]).
والله تعالى أعلى وأعلم.
ثبت المصادر والمراجع
1.     ابن عابدين: محمد أمين، رد المحتار على الدر المختار، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي محمد معوض، الرياض: دار عالم الكتب، ط1، 1423هـ.
2.     الجزيري: عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، القاهرة: دار الحديث، 1424هـ.
3.     الحفيد: أبو الوليد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي، القاهرة: دار الحديث، 1425هـ.
4.     الرملي: ابن شهاب الدين، نهاية المحتاج، بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ.
5.     الزحيلي: وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق: دار الفكر، ط31، 1430هـ.
6.     الشربيني: شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب، مغني المحتاج، تحقيق: محمد خليل عيتاني، بيروت: دار المعرفة، ط1، 1418هـ.
7.     العربية: مجمع اللغة، المعجم الوسيط، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط5، 2010م.
8.     الفيروزآبادي: محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق: يحيى مراد، القاهرة: مؤسسة المختار، ط2، 1431هـ.
9.     الكويتية: وزارة الأوقاف ، الموسوعة الفقهية الكويتية، الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط2، 1404هـ.
10. مرعي: علي أحمد علي، بحوث في البيع، القاهرة: مطبعة الأخوة الأشقاء، ط2، 1413هـ.
11. النسفي: أبو البركات، البحر الرائق، تحقيق: زكريا عميرات، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ.
12. النووي: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، المجموع، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، جدة: مكتبة الإرشاد، دت.




([1]) محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط، تحقيق: يحيى مراد، (القاهرة: مؤسسة المختار، ط2، 1431هـ)، ص350.  
([2]) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط5، 1431هـ)، ص273.  
([3]) وزارة الأوقاف الكويتية، الموسوعة الفقهية الكويتية، (الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط2، 1404هـ)، 20/28.  
([4]) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، تحقيق: محمد خليل عيتاني، (بيروت: دار المعرفة، ط1، 1418هـ)، 2/58.  
([5]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، (دمشق: دار الفكر، ط31، 1430هـ)، 4/288.  
([6]) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي محمد معوض (الرياض: دار عالم الكتب، ط1، 1423هـ)، 7/101-108.  
([7]) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، نفس الصفحة. وانظر أيضا وابن شهاب الدين الرملي، نهاية المحتاج، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ)، 4/3.  
([8]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، 4/289-290.  
([9]) وزارة الأوقاف الكويتية، الموسوعة الفقهية الكويتية، 20/28 وما بعدها.  
([10]) أبو البركات النسفي، البحر الرائق، تحقيق: زكريا عميرات، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ)، 6/3. وانظر أيضا ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، 7/101.  
([11]) علي أحمد علي مرعي، بحوث في البيع، (القاهرة: مطبعة الأخوة الأشقاء، ط2، 1413هـ)، ص187.
([12]) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، 7/109.  
([13]) علي أحمد علي مرعي، بحوث في البيع، نفس الصفحة.
([14]) عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، (القاهرة: دار الحديث، 1424هـ)، ص139.
([15]) يحيى بن شرف النووي، المجموع، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، (جدة: مكتبة الإرشاد، دت)، 9/226.
([16]) أبو البركات النسفي، البحر الرائق، نفس الصفحة.
([17]) علي أحمد علي مرعي، بحوث في البيع، ص192-193.
([18]) أخرجه عبد الرازق في مصنفه (الحديث: 8/89) وأخرجه البيهقي في كتاب: البيوع، باب: الدليل على أنه لا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام (الحديث: 5/274)، وأخرجه الدارقطني في كتاب: البيوع (الحديث 3/56).
([19]) يحيى بن شرف النووي، المجموع، نفس الصفحة.
([20]) المرجع السابق، نفس الصفحة.
([21]) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، 7/113.  
([22]) أبو الوليد بن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي، (القاهرة: دار الحديث، 1425هـ)، 3/225-226.
([23]) (سورة الأنبياء: 107).
([24]) (سورة الروم: 30).
([25]) (سورة هود: 88).

0 comments:

إرسال تعليق